سيد الصفتي: الأمين الذي تخلّى عن كل شيء

23 يونيو 2021
رحل الصفتي في يونيو من عام 1938 (فيسبوك)
+ الخط -

يحجز المطرب المصري سيد الصفتي مكاناً في تلك القائمة التي تضم عدداً من الفنانين الذين حققوا شهرة واسعة، ونجاحاً كبيراً، ثم أخذوا طريقهم إلى الأفول والانطفاء، وصولاً إلى الاختفاء التام، إلى درجة أن يجد الباحث صعوبة كبيرة في تتبع سيرتهم الفنية، وهو غير مصدق أن هذا الاسم أو ذاك، كان ملء السمع والبصر، بصوته وغنائه وشهرته.

ولولا ما ترك من تراث مسجل، لما كان بين أيدينا برهان على وجوده أصلاً. والمصادر المصرية التي يمكن الاعتماد عليها في التوثيق لهذا المطرب العلم شحيحة جداً.. حتى لقب الصفتي لم يستطع أحد أن يجزم إن كان بسبب ميلاده في قرية صفت تراب في طنطا، أم لأنه ولد في صفت اللبن بالجيزة.
مثل أكثر مطربي عصر النهضة، انتقل الصفتي من قراءة القرآن وإنشاد التواشيح إلى الغناء الدنيوي انتقالاً تدريجياً، ولا يُعلم على وجه اليقين تاريخ انقطاعه عن الغناء الديني، إلا أن بعض المصادر تؤكد أنه ظل يمارس اللونين معاً. لكنه عمل مذهبجياً في بطانة الشيخ إبراهيم المغربي الطنطاوي، وظل فترة طويلة مشتغلاً بالإنشاد الديني، قبل أن ينتقل منه إلى الغناء الدنيوي، ولا سيما مع أوائل القرن العشرين، وانتشار شركات الأسطوانات.
ويكشف الاستماع إلى تسجيلات الصفتي، أن الرجل اهتم اهتماماً كبيراً بقالب الموشح، حيث وصل إلينا من تسجيلاته عدد كبير نسبياً، لا سيما إذا قارناه بما وصل من موشحات الشيخين يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي.
ومن الموشحات الشهيرة التي أداها الصفتي ووصلت إلينا تسجيلاتها: "بالذي أسكر من عرف اللمى"، و"أهيم شوقاً"، و"يا غزالا زان عينيه الكحل"، و"قد حركت أيدي النسيم"، و"أنا لا أسمع المليم"، و"يا ميمتي"، و"عنق المليح الغالي"، و"أهوى قمراً"، و"لما بدا يتثني"، و"هل على الأستار هتك"، و"حير الأفكار، و"يا أخا البدر".. وغيرها.


وجاء في موقع المؤسسة اللبنانية للتوثيق والبحث في الموسيقى، أن عمل الصفتي مذهبجياً في فرقة الشيخ إبراهيم المغربي "أتاح له فرصة تعلّم الأوزان المركّبة الّتي تختصّ بها الموشّحات، فتميّز بذلك عن سائر مطربي المدرسة الخديويّة.. فكان من القلائل بين كبار مطربي المدرسة المصريّة الذين حفظوا وسجّلوا عدداً مهماً من الموشّحات بمجرّد دخول صناعة الأسطوانة مصر".
كما أنّه المطرب الوحيد الذي "سجّل آنذاك صيغاً غير مختصرة من موشّحات لُحِّن بعضها على أوزان مركّبة، في حين كان غيره من المطربين، مثل يوسف المنيلاوي وأبو العلا محمّد وعبد الحي حلمي، يفضّلون اختزالها".
اتسم أداء سيد الصفتي بالرصانة والهدوء، ولا سيما في غناء الأدوار، ويعتبر أحرص رواد الطرب على أداء الألحان، كما صاغها واضعوها، فيقتصد في التصرفات والارتجال، حتى اعتبره بعض المهتمين أنه "المطرب الأمين"، و"إمام الدور".
وكانت طريقة أداء الصفتي للأدوار سبباً لإقبال طائفة من المستمعين الذين يحبون الاستماع إلى الدور بلحنه الأصلي، من دون إضافات أو ارتجالات أو تصرفات، لذلك أدى الرجل عدداً كبيراً من هذا القالب المهم، وسجل كثيراً منها لشركات الأسطوانات المعروفة في تلك الحقبة. من تلك الأدوار: "أشكو لمين ذل الهوى"، وسجله لشركة بيضافون، و"الحسن أنا عشقته" لشركة أوديون، و"انظر لحسن الجميل" لشركة غرامفون، و"ألحاظ حبيبي يا ناس" لشركة بوليفون.


كما سجل الصفتي الأدوار الشهيرة: "كادني الهوى"، و"أعشق بروحي مليك الجمال"، و"أنت أصل البدر عندي"، و"بافتكارك إيه يفيدك"، و"البلبل جاني وقال لي"، و"في البعد يا ما كنت أنوح"، و"الكمال في الملاح صدف"، و"يا طالع السعد افرح لي"، و"يا قلبي مين قالك تعشق"، و"الصباح لاح ونور"... وغيرها كثير.
وإذا كان المذهب الأدائي للصفتي هو الحفاظ على البنية اللحنية للدور والموشح، ففي الموال متسع لاستعراض مهارات الارتجال. ومن حسن الحظ أن عدداً كبيراً من مواويل الصفتي قد وصل إلينا مسجلاً على أسطوانات، ومنها: "بحب لكن حبيبي للعوازل"، و"يا دايق النوم اوصف لي أماراته"، و"يا حلو داري عيونك"، و"قم في دجى الليل"، و"يا بدر تم الجميل"، و"الخال على الخد"، و"الليل أهو طال وعرف الجرح ميعاده"، و"يا مالك الروح والقلب الشجي"، و"أنا الجسد وأنت روحي"، وغيرها.


ربما تعطي خريطة الأسطوانات التي سجلها الصفتي انطباعاً بأنه كان مقلاً في أداء القصائد، أو هكذا نظن، بسبب قلة ما وصل إلينا من تسجيلاته لهذا القالب مقارنة بالأدوار والموشحات والمواويل، إلا أن المؤكد أن الصفتي أدى القصائد ببراعة، وسجل بعضها لشركات الأسطوانات، ومن أهم هذه التسجيلات: "أراك عصي الدمع"، و"ألا في سبيل الله ما حل بي منك"، و"غيري على السلوان قادر"، و"تذلل لمن تهوى"، و"أيها الإخوان يا أهل الفطن"، و"يا مليح اللمى".
كان الصفتي مطرباً غزير الإنتاج، دائم النشاط، مكثراً من التسجيلات، وتصف مؤسسة البحث الموسيقي اللبنانية نشاط الصفتي الفني: "كان أحد أغزر الفنّانين إنتاجاً وأكثرهم شعبيّة.. وأغلب الظنّ أنّه أصدر ما يزيد على ثلاثمائة إسطوانة بين أسطواناته الأولى التي سجّلها لـ”زونوفون” سنة 1903 وأسطواناته الأخيرة التي طبعتها شركة بوليفون في أواخر العشرينيات.. وقد عمل خمس سنوات متتالية (من 1905 إلى 1910) بلا انقطاع من دون أن يستريح ولو ليلة واحدة. وكان إلى جانب سلامة حجازي من الفنّانين الذين سافروا في رحلات فنيّة طويلة إلى سورية ولبنان، حيث ترك أثرا عظيما، حتّى إنّ جلّ ما بلغنا من معلومات عن هذا الفنّان قد ورد في المصادر السورية المكتوبة".

وبالرغم من أن بعض المصادر تتحدث عن غناء الصفتي للإذاعات الأهلية، إلا أن الباحث المستشرق فريدريك لاغرانج يؤكد أن الصفتي لم يغنِّ لا للإذاعة الحكومية التي افتتحت قبل وفاته بخمس سنوات ولا للإذاعات الأهلية، ولا لإذاعة بي بي سي العربية، مرجحاً أن يكون قد اعتزل الغناء قبل افتتاح الإذاعة، بسبب ما طرأ على صوته من وهن مع تقدم السن.
جمع الصفتي ثروة طائلة من كد صوته، لكنه بددها كلها على ملذاته، فقد كان مسرفاً مدمناً للكحول، شغوفاً بالنساء، وتزوج أكثر من مرة. وفي فيلم "بمبة كشر"، للمخرج حسن الإمام، جسد الفنان سعيد صالح دور الشيخ سيد الصفتي باعتباره زوجاً لـ"العالمة" المشهورة، ويغني معها عدداً من الطقاطيق الخليعة، وهو أمر بعيد جدا عن الحقيقة، فتسجيلات الصفتي تظهر أنه أدار ظهره تماماً لقالب الطقطوقة، وهي نقطة يلتقي فيها مع يوسف المنيلاوي. ومن المؤسف أن الأعمال الفنية التي تناولت سيرة بعض رواد الطرب في عصر النهضة، تمتلئ بالأخطاء التاريخية، والشائعات التي لا أصل لها.

لايف ستايل
التحديثات الحية

وبغض النظر عن الصورة التي أظهر بها حسن الإمام شخصية سيد الصفتي في فيلمه، فلا يمكن أن نغض الطرف عن أن مسألة زواج المطرب الكبير من بمبة كشر، لم ترد في أي مصدر أو شهادة، ولم يعرف بها أحد إلا من خلال هذا الفيلم.
وُلد الشيخ سيد الصفتي عام 1867، وحقق في دولة الطرب مكانة كبيرة جداً، وتهافتت عليه شركات الأسطوانات، حيث كان يحقق مبيعات واسعة في مصر وخارجها، ولا سيما في بلاد الشام، لكنه رحل عام 1938، من دون أن يشعر به أحد، بعد أن اعتزل الغناء، وآوته أخته في قريتهما، مشترطة عليه ترك شرب الخمر، وهجر المحافل العامة.

المساهمون