في قالب دراميّ مُختلفٍ ومُشوّق، جعلت المُخرجة السينمائية المغربيّة سلمى بركاش، في فيلمها الأخير "أنديكو" (2018)، الصورة السينمائية أكثر تجذّراً في المجتمع المغربي. فهي من المخرجات اللواتي يشتغلن بصمت في المغرب، إذْ تتناول دائماً مواضيع جديدة، ولا تلهث وراء الأحداث السياسية والتحوّلات الاجتماعية، بل تُذهِل المُشاهد بقدرتها على خلق مسار حكائي نابعٍ من ذائقتها الجماليّة، وتبقى سادرة أمام واقعها.
في "أنديكو"، تتحرّر الصورة من نموذجها المألوف في الفيلم المغربي، مُقدّمةً متناً بصرياً مُختلفاً في تعامله مع النصّ، وجماليّات الكادر، وتدرّجات اللون، وقوّة الكاستنغ، مُنجزةً ـ في النهاية ـ فيلماً نابعاً من حكايةٍ شخصيّة، يتشابك ـ في الوقت نفسه ـ مع قضية تخصّ المجتمع المغربي، قديماً وحديثاً.
بمناسبة عرضه التجاري في المغرب أخيراً، حاورت "العربي الجديد" بركاش عن فيلمها هذا، وعن حكايته ومداراته الفنية والجمالية.
أنتِ قليلة الظهور. سيرتُك السينمائية يكتنفها غموضٌ كبير. كيف جئت إلى السينما؟
صغيرةً، أخرجتُ أفلاماً قصيرة على الورق، مع أخواتي. بعدها، وجدنا طريقة لعرضها على حائط غرفتنا. حينها، كنتُ أحلم في أنْ أصبح فنّانة كاريكاتير. في النهاية، وجدتُ نفسي أدرس الهندسة المعمارية، التي لم تصمد كثيراً أمام الفنون البصريّة والسينما التجريبية. بعد انتهاء دراستي، عُدْت إلى المغرب، ورافقت الممثلة أمل عيوش في تحضيرها "مصير امرأة" للمغربي حكيم نوري. المُنتجة ماريا بيلار كازورلا، أدخلتني في الفريق، ونوري قدَّم لي نصائح فنية وتقنية، بين حين وآخر. هكذا أُصبتُ بفيروس السينما، فصار عليَّ الاستمرار في التدريب. اشتغلتُ لاحقاً كمُساعدةٍ أولى للمُخرج في أفلامٍ مغربيّة وأجنبيّة عدّة.
بهذه الطريقة دخلتُ إلى السينما، وأخرجت أفلاماً قصيرة، ثمّ أنجزتُ فيلمي الروائي الأول، الذي عُرض في بلدانٍ كثيرة ونال جوائز مختلفة. ثمّ كان فيلمي الثاني "أنديكو".
ما الدافع الحقيقي لكتابة أفلامٍ وإخراجها؟
كتابة فيلمٍ تأخذ شكلاً مُقدّساً بالنسبة إليّ. إنّها، في الوقت نفسه، مكانٌ مُميّز لإبداع تخيّلاتي وبلورتها، لتقديم شهادة لي إزاء الحياة والتجارب التي أعيشها، وأنقلها إلى استعارات مرئية. إنّها تُعطيني إمكانية الهروب إلى واقعٍ آخر. لذلك، أحبّ فكرة نقل ومُشاركة عواطفي مع نفسي ومع أشخاص آخرين، بسفرٍ حسّي ومرئي في آنٍ واحد.
بعد تجربة أفلامٍ مغربيّةٍ قصيرةٍ، وإخراجك أول روائي طويل لك، بعنوان "الوتر الخامس" (2011)، كيف تكوّنت فكرة "أنديكو" وتبلورت؟
أخبرتني أمي الطبيبة، ذات يوم، بأنّ امرأةً جاءتها مع ابنتها الصغيرة، التي لم تعد قادرة على رؤية أي شيء. ذهبت معها إلى متخصّصين كثيرين، وكانت يائسة. كانت تخشى أنْ تكون عمياء. بقيت والدتي بمفردها مع الطفلة، وتحدّثت معها فترة طويلة. في الواقع، شاهدت الطفلة الصغيرة مشهداً فظيعاً، أرادَت محوه من ذاكرتها، ما سبّب لها العماء، من دون وعي. بعد حديثها الطويل مع والدتي، حرّرت الفتاة الصغيرة نفسها، واستعادت بصرها، وبدأت تلعب كما لو أنّ شيئاً لم يحدث. منذ معرفتي بالحكاية، قرّرت أنّي ذات يوم سأفعل شيئاً بها.
جماليّاً، ما دلالات العنوان؟ كيف تمّ اشتقاقه وجعله عنواناً غامضاً للفيلم؟
"أنديكو" اسمٌ يُطلق على وسيطٍ لأطفالٍ يتمتّعون بالاستبصار و/أو فرط الحساسية، بسبب اللون الأزرق لهالتهم. نورا تواجه عالماً لاعقلانياً. لديها هواجس ورؤى، طفلة نيلية بهذا المعنى، لغز مزعج لمن حولها.
لماذا تأخّرت عروضه التجارية في المغرب؟
حقّق الفيلم مسيرة مهنية دولية رائعة، ونال جوائز عدّة. لكنْ، عندما أردتُ إطلاق عروضه التجارية في الصالات السينمائية، أُغلِقَت كلّ صالات العروض مع فرض الحجر الصحيّ بسبب كورونا. في غضون ذلك، واصل الفيلم رحلة المهرجانات، عبر الإنترنت، أو في بلدان لا إغلاق فيها. ثمّ، بمجرّد إعادة فتح صالات العرض، هرع جميع المخرجين إلى إطلاق أفلامهم. كان عليّ انتظار دوري.
في الفيلم مسرّات كثيرة، مُرتبطة بالإخراج والأداء المُذهل لبعض الممثلين والممثلات. كيف عملت على الكاستنغ؟ وإلى أيّ حد تستطيع هذه المرحلة خلق تناغمٍ بين الشخصية السينمائية وقوّة السيناريو؟
استمرّ التحضير فترة طويلة، لأنّ الإنتاج حينها كان منشغلاً بمشاريع أخرى. هذا أعطاني وقتاً للبحث عن الممثلين بسهولة، مع عزيزة مرزاق، مسؤولة الكاستنغ، ومع عبد الله شاكيري، الذي درّب الممثلة اللبنانية مروة خليل عبر سكايب لأسابيع، لأن عليها تأدية دورها باللهجة المحلية. مع الأطفال، أنجزت اختباراتٍ، حتى وصلتْ ريم كتاني. عرفتُ فوراً أنّها ووهيب أبكاري سيكونان في الفيلم. لديهما ذكاء عاطفي حادّ، ويعرفان كيفية الاستفادة منه. نظّمتُ جلسات كثيرة لقراءة السيناريو مع جميع الممثلين، خلود ومروة خليل وعائشة محمود ومالك أحمد وكريم السعيدي، مع عبد الله شاكيري، الذي ترجم الحوارات. كنتُ حريصة على أنْ يتفاعل الجميع معاً.
يتميّز "أنديكو" بسلاسة الحكي وخطيّة السرد. موضوعه مُثير، لمُقاربته الخرافة، ومُحاولة مزجها بنوعٍ من التحليل النفسي المعاصر. ما الذي جعلك تتناولين هذا الموضوع المُغيّب في السينما المغربيّة؟
أردتُ العمل على هذا الموضوع لأنّه عالميّ ومُحرّم، طالما يتعلّق بالطفولة. أحياناً كثيرة، مؤلمٌ التحدّث عن الذات، إنْ لم يكن مستحيلاً. يتشبّث الأطفال بخيالهم، ليُدركوا أنّه من الضروري الحزن على قريبٍ، ليُقْبَلْ المرء، ويقْبَل نفسه.
ما حدود التقاطع والتلاقي بين الصورة السينمائية الواقعية ونظيرتها الخيالية في "أنديكو"؟
أردتُ سرد قصّة نورا الطفلة، التي تواجه مجتمعاً تضيع فيه الكائنات، لأنّها قلقة بشأن مشاكلها، وتهيمن عليها أنانياتها. هناك أيضاً الرفض والتخلّي عن الاختلاف من نظامٍ يتوحّد حتّى في تصوّر العالم. هناك شكل من أشكال الاغتراب للفرد في بيئةٍ أقلّ اهتماماً بالعالم الداخلي وروحانيّته.
تعكس القصّة علاقة عالمٍ ما. لا يوصف المُرتَبط بالحواس، والكون الطبي الأكثر عقلانية. هناك تفكير في أشياء لا تُقال، والعواقب التي تترتّب على ذلك. تجري الأحداث في مغرب معاصر، في تناغم مع الأفكار والتقاليد الواردة من عصر آخر. هذه مفارقة كاملة، عن أشخاصٍ يذهبون إلى العرّافين، لكنّهم يرفضون قبول الأقارب الذين لديهم هواجس أو حدس واضح للغاية.
يُمكن وضع القصّة في أيّ مكان آخر، حيث يواجه الأطفال عالماً لا يفهمون نطاقه. هذا فيلمٌ يميّز الخيال وسلطاته.
نورا طفلة وحيدة، تُركَت لأجهزتها الخاصة. تبحث بيأسٍ عن طريقةٍ لإثبات أنّها موجودة في خصوصيتها واختلافها. هناك شخصيات أخرى غارقة في نظامٍ غير محتَمَل، مُتعَبَة وحالمة، تمرّ في الزمن بحثاً عن مَخرجٍ، بينما تتجاهل معاناة الطفولة.
هل تعتقدين أنّ تناول ثيمات كهذه، يتشابك فيها الواقعي المُركّب بالخيالي، قادرة على فتح آفاقٍ جديدةٍ للسينما المغربيّة، أمام التكرار البصريّ الذي يطبعها في الأعوام الأخيرة؟
هذا يتوقّف على نوع الفيلم، ووجهات النظر، ويعتمد على ما إذا كنتَ تختار الوثائقيّ أو ترغب في الخيال. أحياناً، حتّى أبعد تخيّلات ما هو موجود يتجاوز الواقع.
يريد المخرج سرد القصص أولاً، ويستخدم ما هو أقرب إلى شخصيّته وتعبيره.
أعتقد أنّ هناك تنوّعاً وأساليب في السينما المغربية أكثر من ذي قبل، وستنمو. الشعب المغربي غنيٌّ بثقافته، وبثقافة الآخرين. نحن رُحّل متعدّدو الثقافات، من تواريخ مختلفة. مع هذا، لن نعرف أبداً كيف ستتطوّر السينما عندنا.