ستيفن سوندهايم... قبل أن تعود الأغنيات إلى الكواليس

05 ديسمبر 2021
الكلمات لا بد لها أن تُجلَس على النغمات بغية أن تظل واضحة (دوغلاس إلبينغر/Getty)
+ الخط -

وهي على فراش الموت، أسرّت الأم لابنها، ستيفن، أن الإتيان به إلى هذا العالم، كان أسوأ فعلٍ أقدمت عليه في حياتها. بالنسبة إلى عشاق الميوزيكال، وعلى الأخص ذاك الذي اشتُهر به مسرح  برودواي النيويوركي الشهير، وللذاكرة السمعية الأميركية على مدى التاريخ الحديث، فالرأي مختلف؛ إذ ما من مسرح غنائي أميركي يُذكر منذ خمسينيات القرن الماضي إلى الآن، من دون اسم ستيفن سوندهايم (Stephen Sondheim)، الذي رحل الأسبوع الماضي عن واحد وتسعين عاماً. المؤلف الموسيقي، وكاتب كلمات الأغاني الأنجح في التاريخ الحديث، والأكثر احتفاءً، وتقلّداً للجوائز والأوسمة.

بحسب وصف موسوعة البريتانيكا العالمية؛ فإن الميوزيكال، كجنس موسيقي ووسيط فني، هو إنتاجٌ مسرحي، له صبغة حسيّة وغرض ترفيهي. يتميز ببساطة الحبكة، ويشتمل على الموسيقى والرقص، إضافة إلى الحوار. قد يصح ذلك غالباً في المضمون، أما الشكل، فبمؤهلات خارقة للعادة، ورؤى فنية بعيدة الأفق، كالتي شُهِدت لقامات فنية أميركية عالية، مثل سوندهايم، والمؤلف وقائد الأوركسترا ليونارد بيرنشتاين (1918-1990)؛ فإن إنتاج الميوزيكال لجهة التقنية الموسيقية في التلحين والتوزيع، ناهيك عن الشق المتعلق بالمسرح وتصميم المشاهد، قد بلغ حداً من البراعة والعمق، جعل منه، من الناحية الشكلية على الأقل، سيرورة تطورية لمسرح الأوبرا، خصوصاً تلك خفيفة الظل منها، التي ازدهرت في نهاية القرن التاسع عشر تحت اسم أوبريت، بفضل المؤلف الفرنسي الألماني جاك أوفنباخ (Jacque Offenbach (1819-1880.

في الأغنية المنفردة "في مكان ما" Somewhere، من ميوزيكال "حكاية الحي الغربي" Westside Story التي كتب لها الكلمات ستيفن سوندهايم ولحنها ليونارد بيرنشتاين، ثم عُرضت على مسرح برودواي سنة 1957، يُغني العاشقان لحبّهما المستعصي؛ إذ إن الصراع المُحتدم بين عصابات الحي المتنافسة، قد جعل الوصال بينهما من المحال. كان ذلك العمل الموسيقي الأبقى في الذاكرة الأميركية، بمثابة أول ظهور لسوندهايم على الخشبية النيويوركية الأشهر على مستوى المسرح الترفيهي، الغنائي منه والاستعراضي. 

في المشهد الثاني من الفصل الثاني، وفي ملحمية عاطفية تُذكّر بخالدة شكسبير روميو وجولييت، تحلم ماريا بلقاء حبيبها توني، من دون أن تعلم أن الأخير قد قتل شقيقها للتو، أثناء نزال شبّ بين عصابتي الحي الرئيستين. ما إن تهرع الأخت المفجوعة إلى غرفتها تبكي أخاها، حتى يظهر حبيبها أمامها عبر النافذة. وبينما يقوم الاثنان معاً بصحبة طاقم من الراقصين بأداء المشهد، مكتفين بالإيماء الجسدي والرقص، يُسمع صوت المغنية مُحتجباً يركب الأثير من خلف الكواليس.

في كتابة الكلمات، مثال أخّاذ على قدرة سوندهايم الباهرة على الإمساك بزمام اللغة. من ناحية الشكل، القافية واحدة بثلاثة حروف على مدى الأغنية بكاملها. لأجل التسخين الشعوري، يستخدم تقنية نظم تعتمد على مُفردات تُركّب تباعاً، وتبدأ بنفس الحرف. عوضاً عن أن كل مفردة بذاتها، اختيرت قبل كل شيء لتمتطي اللحن بسهولة وأناة، ما يجعلها تلتحم باللحن في علاقة عضوية تُمكن المُنتج النهائي من الصدم الشعوري.

أما من جهة المضمون، فيسعى الكاتب إلى الإيحاء بقدر الهرب المحتم على كل من البطلة والبطل، إن أرادا لحُبهما أن يُثمر ويستمر بعيداً عن الصراع المُستعر. فيُقدم إشارات لغوية تقود نحو موضوعة الملجأ والملاذ والعيش معاً، التي بدورها سترسم أحداث القصة. هكذا، ينأى سوندهايم بمضمون الأغنية عن سيرورة النص، يبتعد بها عن التحرير والتوصيف، ويكتفي بالموضوعة في إطارها الشمولي العام. لتكتسب الأغنية بهذا قيمة مستقلة بذاتها، منفصلة عن سردية المسرحية، فتعيش أبداً بين أسماع الناس.

إلا أن واقع الأمر حيال "في مكان ما"، يدلّ ليس على المقدرة الأدبية لدى سوندهايم فقط، وإنما على موهبته الموسيقية الفذة أيضاً. فخلافاً للمألوف، قد قام ليونارد بيرنشتاين بوضع لحن الأغنية قبل أن تُنظم لها الكلمات؛ إذ إن الأخير في تلك الفترة قد بدأ بصعود درجات الشهرة العالمية في مجالات مهنية عدة، وأخذت تنهال عليه العروض من كل حدب وصوب. لذا، كان بصدد كتابة عمليّ ميوزيكال بصورة متزامنة، ولم يمتلك الوقت الكافي إلا لاستدعاء أحد الألحان الجاهزة من جُعبته، ويُقدمها للأغنية، ما حدا بسوندهايم، المتحمس، إلى اقتناص فرصة الحضور في برودواي، بأن يتكفّل بصياغة الكلمات بحسب متطلبات اللحن.

وتلك مهمة مستحيلة، سوى لمن ولد عاش في كنف كل من اللغة والموسيقى في آن، كـ سوندهايم، الذي أحسن احتضان لحن بيرنشتاين كما لو كان لحنه هو. شرع في كتابة الكلام، كما لو كان يستشرف موسيقى يقوم بتأليفها بنفسه. يستوجب ذلك القدرة على الإبحار بين عالم الكلمات والمفردات وعالم الأنغام والانسجامات بنفس السهولة والتلقائية. البرزخ الذي يجمع بينهما يظل الإيقاع، والتقطيع الجُملي والامتدادات الصوتية، إضافة إلى النبرة من حيث الشدة والارتخاء. هنا، تمكن ملاحظة كيف استطاع كاتب الكلمات أن يجعل من اللحن، الموضوع سلفاً، مصدر إلهامٍ لا يُقيّد خياراته اللغوية، بل يوسّعها إلى أبعد المديات التعبيرية الممكنة.

إبحار إبداعي بين الأدب والموسيقى، ظل السمة الأبرز لتفوق سوندهايم وتفرّده. قد قال ذات مرة خلال مقابلة أجراها مع مؤرخة سيرة حياته إن "الكلمات لا بد لها أن تُجلَس على النغمات بغية أن تظل واضحة للمستمع؛ إذ إنه لن يتسنى للجمهور خلال العرض أن يسمع الكلام مرتين".

لذا، إن لم تقفز الكلمة مع كل قفزة يقوم بها اللحن، ولم ترتفع عند كل ارتفاعة له، وتنخفض إثر كل انخفاضة؛ سيؤدي ذلك إلى التباس يُصيب المتلقي. إلا أن إجلاس الكلمات بصورة مثالية على مجالس لحنية، لا يتأتى إلا لمن يُجيد صناعة أرائك لها، تتوسدها وتحتضنها كما لو كانت من صُلبها وماهيّتها... حتى تغدو اللغة موسيقى والموسيقى لغة.

المساهمون