قادمٌ من جنوب الصحراء، مارس سالم بلال هواية التمثيل في عروض مسرحية في مرحلتي الصفوف الابتدائية والبكالوريا. تخرّج وعمل مُدرّساً، لكنّه مارس، بالتوازي، شغفه الفني، بإشرافه على الأنشطة الفنية، ومؤطّراً لأنشطة تربوية للأطفال، مسرحاً وموسيقى ورقصاً.
عام 2006، أسّس فرقة مسرحية للتعبير عن ثقافة منطقته الحسّانية (جنوبيّ المملكة المغربية)، فكان من مؤسّسي الدراما الحسّانية، التي تتناول حياة قبائل الجنوب. هذا سهّل دعوته، مع آخرين، إلى كلّ تظاهرة سينمائية أو بصرية، عامة. بعدها، حصل على إجازة في الدراسات المسرحية، ومنذ عام 2016، بدأ إخراج أفلامٍ مختلفة: أول فيلم قصير له بعنوان "جوف الغرد" (2017)، أي باطن الكثيب الرملي.
أخيراً، ظهر أول وثائقي طويل له بعنوان "صُرة الصيف"، الفائز بجائزتين اثنتين: الأولى في الدورة الـ23 (17 ـ 23 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام الوثائقية والقصيرة"، والثانية "جائزة العمل الأول"، في الدورة الـ27 (10 ـ 17 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط".
في هذه المناسبة، التقته "العربي الجديد":
(*) كيف ولماذا حدث هذا الانتقال النوعي من التمثيل على خشبة أبي الفنون إلى الإخراج السينمائي؟
منذ عام 2008، بدأ الاهتمام بالتظاهرات السينمائية في الجنوب، فتمّ تأسيس "مهرجان الداخلة للسينما". كانت هناك تظاهرات ولقاءات تُنظّمها وزارة الاتصال، بالتعاون مع "المركز السينمائي المغربي".
ربما لأنّ المجموعة العاملة في الفنون في هذه المنطقة، وفي المسرح تحديداً، كانت قليلة حينها، وُجِّهت إليّ الدعوة دائماً لحضور هذه الفعالية السينمائية، وأي تكوينات أخرى لها علاقة بالصوت والصورة. ثمّ التقيتُ المخرج حكيم بلعباس، الذي جاء إلى الجنوب لتأسيس "مختبر الصحراء"، بعد أنّ قرّر الملك محمد السادس الاهتمام بالثقافة الحسّانية، وإنشاء صندوق لدعم الأعمال السينمائية المهتمّة بنقل هذه الثقافة، والحفاظ عليها.
(*) ما الذي يُميّز الثقافة الحسّانية عن غيرها من المناطق الأخرى في المغرب؟
المغرب مُقسّم إلى 12 جهة، منها 3 في الجنوب، لها خصوصية، إذْ تقترب من اللغة العربية في لهجتها، وأهلها يهتمّون بالشعر العربي كثيراً، وهم الأقرب إلى موريتانيا، في المقوّمات الثقافية والعادات والتقاليد، ويرتدون الزيّ نفسه، ذكوراً وإناثاً. لذا، يختلف الجنوب عن الشمال، ما يصنع فسيفساء تُعطي تنوّعاً مؤثّراً للمغرب.
(*) قبل أنْ يُكوَّن حكيم بلعباس "مختبر الصحراء"، كانت هناك محاولات لآخرين، لكنّها فشلت كلّها. ما سرّ نجاح تجربة بلعباس؟
عندما تأسّس الصندوق، الذي أشرف عليه حكيم بلعباس، اكتشف أنّه لا يوجد متخصّص مهني في الأقاليم الصحراوية. أقصد أنّه لا يوجد مخرج يستفيد من هذا المشروع. لذلك، بدأ حكيم يعمل على تأهيل الشباب، للاستفادة من هذا الصندوق، وتدريبهم على صناعة الأفلام. صحيح، سبقه آخرون في هذه المحاولة، ولم ينجحوا. أمّا نجاح حكيم، فبفضل أسلوبه في التعامل معنا. كان مميّزاً جداً.
(*) كيف ذلك؟ هل توضح؟
في الجانب الشخصي، يتمتّع حكيم بالفضول في التعرّف أكثر إلى هذه الثقافة. كان يتقاسم معنا قضيتنا، وتفاصيل حياتنا، ويُشاركنا أموراً كثيرة، ويتعامل معنا كإنسان. كنتُ أتحدّث معه في أمور شخصية جداً، لا أتحدث فيها مع أبي أو أخي. كان قريباً منا، ولا يزال قريباً جداً منا كطلاب. كان قادراً على كسر الحواجز بينه وبينهم، واستطاع التأثير فينا جداً، وتشجيعنا، فجعلنا نلتزم أنْ نتعاطى مع هذا الشأن بجدّية، لأنّنا في البداية كنا مستهترين. وعمل على تصفية الأجواء من أي خلافات، وإبعاد الخصومات، فخلق جواً من الوئام.
إضافة إلى الفريق الذي كوّنه للعمل معنا، وفيه خبراء أجانب وعرب ومغاربة، كالناقد المغربي حمادي جروم، يتابعون معنا منذ مرحلة كتابة السيناريو، ثم عملية التصوير، وصولاً إلى أعمال ما بعد الإنتاج، ما ساعدنا على أنْ نكتسب الخبرة والمعرفة، وأنْ نصبح صُنّاع أفلام وثائقية.
المختبر يجني اليوم حصاد البذور التي غرسها حكيم بلعباس وحمادي جروم. كلّ المهرجانات في المغرب تختار أفلاماً من إنتاج "مختبر الصحراء"، لمخرجين يُعبّرون عن ذواتهم وقضاياهم فيها.
(*) صنعتَ شريطاً واحداً قصيراً مدّته 8 دقائق، ثمّ أخرجتَ "صرة الصيف"، الذي يشي بأنّ لديك خبرة في صناعة عمل بصري بروح سينمائية. هل ساعدك فريق الإشراف في المختبر في ذلك؟
قدّمت المشروع، فنال السيناريو موافقة لجنة الدعم التابعة لـ"المركز السينمائي المغربي". إنّها لجنة خاصة بالفيلم الحسّاني، والأولوية لأبناء المنطقة الحسّانية. حصلت على ميزانية مُعتَبرة، نحو 87 ألف دولار أميركي. لذا، فكّرت في التعاون مع المُدرّسين الذين ساعدونا في "المختبر"، للاستفادة بمزيدٍ من خبراتهم، فكان معي حكيم، ومدير التصوير التونسي أمين المسعدي، الذي كان أحد الأساتذة، والمونتيرة التونسية نادية تويجر.
(*) هل تمّ تعديل السيناريو في التصوير؟
منذ بداية التصوير، وجدت نفسي أمام سيناريو آخر مختلف عن ذاك الذي قدّمته للدعم. الأول يعتمد على السرد والتعليق والمعلومات. في التصوير، كان حكيم يوجّهني، قائلاً: "استمرّ مع هذه الشخصية. اذهبْ مع هذه السيدة الكبيرة، أو مع هذا الرجل "الصياد"، أو التقِ نساء الزاوية واجلس معهنّ"، بينما هو جالس يؤطّر الصُّور عن بعد. بين حين وآخر، يُرسل إليّ رسالة قصيرة عبر "واتساب". في اليوم التالي، أقف مع مدير التصوير، وأخبره عن رغبتي في ما أريد تصويره، فيطرح عليّ أسئلة تعجيزية، أحاول العثور على أجوبة عنها، أو على تفسيرات. هذا كلّه أفادني، وأكسبني خبرة عملية كبيرة.
(*) كم يوماً استغرق التصوير؟
12 يوماً، بسبب الارتفاع الشديد في حرارة الطقس. كنا نصوّر 3 ساعات يومياً فقط، وبعد العصر. عندما اكتمل التصوير، جاءت فترة الإغلاق بسبب كورونا، ما ساعد على الاشتغال على المونتاج بهدوء وتأنٍّ. عمليات ما بعد الإنتاج حصلت في تونس، لأن نادية تويجر عادت إلى بلدها. كنّا نتفق على الاشتغال على مقطع معين، وعندما تنتهي منه، تُرسله إليّ لأخبرها رأيي وملاحظاتي. وهكذا، إلى أن انتهى الفيلم، فشعرتُ بأنّي ربحتُ كثيراً من الأشياء، وتعرّفت إلى لغة جديدة، واستفدت خبرات متنوّعة في هذه التجربة، المميّزة جداً.
(*) هل كان سهلاً إقناع النساء بالظهور أمام الكاميرا، خاصة أنهنّ، في المشهد الأخير، يُغنّين، فنساء البدو متحفّظات، يرفضن التصوير أو إظهار وجوهنّ أمام الغرباء؟
سرُّ ذلك، ربما، أنّنا ناس الصحراء. إذا ارتاحت المرأة إلى شخصٍ عندهنّ، تبدأ في الحديث معه، لأنها صارت تثق به. لكنْ، إذا غضبت، أو لم تشعر بالارتياح، تغلق الباب ولن تفتحه أبداً. هؤلاء النسوة ارتحن إلينا، لذلك كُسرت الحواجز بيننا وبينهنّ، حتّى أنهنّ لم يكنّ يعرفن متى نصوّر، ومتى نتوقّف. صرن يتحرّكن بتلقائية. ولأنّ هذه المرأة المنشدة أيضاً لها عادة، أنّها عندما تصل إلى الزاوية، تبدأ الإنشاد. تصرّفات هؤلاء النسوة جرت بشكل تلقائي جداً.
(*) الطفل الذي يسير رافعاً الشال الأبيض في الهواء، هل وجّهته؟ لأنّي شعرتُ بذلك في التصوير قليلاً، خاصة مع التفاتته المتكرّرة للكاميرا، كأنّه ينتظر منك إشارة ما؟
كلا. الطفل نفسه كان صاحب فكرة الشال، لأنّ النساء جدّاته.
(*) ولقطة الرجل الذي يرتدي الزي الأبيض ويسير مُبتعداً. لماذا قرّرت إنهاء الفيلم به؟
حصل هذا تلقائياً. لم أخطّط له. طبعاً، لهذه اللقطة دلالة، تتماشى مع توجّهي في الفيلم، لأنّ منطقة الحسّانية ككلّ يحضر فيها الجانب الروحاني. لذا، يسير الفيلم في هذا الاتجاه، حيث التأمّل. كما أنّ الصورة السينمائية، في لقطات مختلفة، تعبّر عن ذلك أكثر من أيّ كلام آخر.
(*) أخبرتني أنّ السيناريو الأول كان يتضمّن شخصية نسائية تتمسك بها. كانت تتحدّث عن فائدة الأعشاب، وتقدّم معلومات طبية. أعتقد أنّك، بعد انتهائك من إنجاز الفيلم بصورته الأخيرة، أدركتَ أنّ توظيفها سينقل الفيلم من السينما إلى التلفزيون.
هذا اشتغل عليه حكيم بلعباس منذ البداية. حاول تحطيم صُورٍ وأفكار تقليدية كنتُ متأثّراً بها، أو كانت تسيطر عليّ، ومنها العمل بالأسلوب التلفزيوني، لأنّي قدّمت برامج وأفلاماً في تلفزيون "قناة العلوم"، قدّمتُ فيها المعلومة في التعليق، أكثر من الاهتمام بالصورة. هذه المشكلة تواجه أغلب السيناريوهات التي تُقدّم إلى لجنة الدعم، إذ تعتمد أساساً على الحوار، كأنّها ريبورتاج تلفزيوني. لكن، منذ حضوري "مهرجان الإسماعيلية"، ثم "مهرجان تطوان"، وجدت نفسي أقول لزملائي: "اذهبوا إلى المهرجانات، لأنّها تتيح مُشاهدة سينما مختلفة، من النوع الذي يجب أنْ نشتغل عليه".
(*) قرأتُ في الجينيريك وصف "مستشار تاريخي". كيف يكون ذلك في فيلمٍ عن الحاضر؟
كان ذلك وفق السيناريو القديم، لأنّه يتضمّن معلومات عن الأعشاب والتداوي، كتبها متخصّص، وكان لا بُدّ من الاحتفاظ بجهده ووقته.
(*) هل تعمل على مشروع جديد؟
أعمل على وثائقي أيضاً. اكتشفتُ أنّه في الثقافة الشعبية الحسّانية، توجد شخصية تشبه طرزان. شخصٌ حقيقي، عاش مع النعام. هناك أستاذة جامعية عمرها أكثر من مائة عام، اسمها مونيكا زاك، كتبت رواية "الولد الذي عاش مع النعام"، تُدرَّسُ في السويد والإمارات. أحاول الاشتغال عليها حالياً، لإبراز جانب الأسطورة فيها، والتمييز بينه وبين الجانب الحقيقي.
(*) لكنْ، لا شخصيات حقيقية لديك سوى ابنة هذا الرجل الذي عاش مع النعام. كيف ستتعامل مع الشخصيات الأخرى؟ كيف تُفكّر في المعادل البصري؟
هناك أناس آخرون عاشوا في حياة هذا الرجل. هناك كتب ومراجع عنهم، ففي الثقافة الحسّانية أشياء عدّة، حين نسمعها ربما نعتقد أنّها خيال أو أسطورة، أي أنّها ليست حقيقية. مثلاً، كان يُقال عن هذا الرجل إنّ النار لا تلسعه عندما يلمسها. كان الناس يستنجدون به وقت الجفاف، كي يهطل المطر، والآن هو وليّ صالح في منطقة محدّدة.
(*) ما الذي أغواك في تناول هذه الفكرة؟ هل الجانب الأسطوري المعجون بالحقيقة، أم لأنّ هناك شخصيات مُشابهة عالمياً؟ هل المقارنة أسهمت في جذبك إلى الفكرة؟
ربما لأنّ هناك طرزان وشخصيات أخرى في السينما العالمية. إذا كانت هناك شخصية مماثلة في الثقافة المحلية، فلماذا لا نُعرّف بها؟ قد تفتح علينا جوانب عالمية أخرى أفضل. وأيضاً، كي يتسنّى للعالم الآخر التعرّف إلى جوانب مهمّة في ثقافتنا، بشكل أعمق.
(*) هل سيُشارك المختبر في الإنتاج؟
هذه التجربة ستتمّ بعيداً تماماً عن المختبر. لأنّي أحاول فيها أن أرى نفسي كمخرج، بعيداً عن أي تأثيرات وتوجيهات. وأيضاً لكي أرى إمكاناتي.
(*) هل ستواصل في الوثائقي، أم أنّك ستنتقل إلى الروائي بعدها؟
هذه الفكرة مُسيطرة عليّ قبل إنجاز فيلمي الأول، وقبل تكويني في المختبر. كنتُ أفكّر في البدء بالوثائقي، ثم التوجّه إلى الروائي، لأكون مثل عبد الرحمن سيساكو (مخرج ومنتج موريتاني ـ المحرّر)، فأحقّق فيلماً روائياً عن الثقافة الحسّانية. لكنّ حكيم بلعباس غيَّر هذه الأفكار التقليدية فيّ، وجعلني أرى أنّ الفيلمَ الوثائقي سينمائيٌّ في النهاية، كالروائي.