ساحة الأمم المتحدة... مختبر الحداثة المعمارية في الدار البيضاء

29 ابريل 2023
ساحة الأمم المتحدة والساعة الشهيرة (هشام إبراهيم/Getty)
+ الخط -

شكّلت مدينة الدارالبيضاء منذ بدايات القرن العشرين محطّة بارزة لكبار المُهندسين الأوروبيين ومختبراً حداثياً حقيقياً لبلورة أفقهم البصريّ داخل مدينة لعبت دوراً طليعياً في تاريخ المغرب الحديث. وتكاد كلّ الروايات التاريخيّة تتّفق على أنّ الدارالبيضاء قد نالت حظّها من فنّ العمارة منذ مطلع القرن العشرين، بعدما بدا شارع محمّد الخامس بمثابة مختبرٍ بصريّ حقيقي لعمارة "آرت ديكو".

لهذا عُدّت المدينة ومعها ساحة الأمم المتحدة العريقة مختبراً للحداثة البصريّة، إذ لأوّل مرّة سيخرج المُواطن البسيط من وراء أسوار المَدينة القديمة ويُشاهد ساعة ساحة الأمم المتحدة (أو ساحة فرنسا) الكبيرة المُعلّقة على واجهة معلمةٍ أثريّة ويلحظ تلك الأطياف السرمدية وظلالها، وهي تنعكس على طول شارع محمّد الخامس.

من كان يتصوّر أنْ تغدو المدينة وجهة للساكنة الأوروبية البرجوازية التي ستستقرّ هناك من مطلع القرن العشرين؟ فقد عملت السلطات الفرنسيّة على العناية بالشارع وجعله أيقونة معمارية تُقدّم صورة عن الفئة الاجتماعية التي كانت تُقيم هناك، بل إنّ هذا التشييد المعماري الحداثي أنتج معه عيشاً اجتماعياً من نوعٍ آخر بالنسبة إلى المغاربة، إذ جعلهم يشعرون بعيش الحداثة في صُوَرها الغربيّة. ومنذ ذلك التاريخ اعتبرت الساحة رمزاً لحداثةٍ معمارية مُبكّرة وعاصفة للفنّ والجمال، قبل أنْ يخرج الفرنسيون من الحيّ ويتقادم الشارع ويتغيّر شكل الحياة اليوميّة ويغلب على تلك المباني الصوَر الإشهارية التجارية.

كذلك إنّ اعتماد السلطات المعنية بالترميم وشؤون الفضاء العموميّ قد غيّرت من الصورة الأولى لهذه الساحة، بعدما جعلتها مرتعاً لحياةٍ معاصرة خالية من كلّ فنّ وجمال. لقد نجح المُخطّط والمصمّم الفرنسيّ هنري بروست (1874-1959) بإيعاز من المُقيم العام الجنرال هوبير ليوطي، في جعل الساحة أداة ربطٍ بين المدينة القديمة والميناء والفضاء الأوروبي الجديد، وذلك بلمسةٍ بصريّة ساحرة لا تنفي الموروث الجمالي المغربيّ والعربيّ، ولكن العمل على دمجه مع جماليّات المعمار الغربي.

ورغم القصف الفرنسي للمدينة القديمة عام 1907 وتضرّر المباني التاريخيّة، إلا أنّ عمليات الترميم التي رافقت ذلك، جعلتها تحتفظ وتستعيد بعضاً من جماليّة مبانيها ورونقها.

حول العالم
التحديثات الحية

لكنّ المُثير في معمار ساحة الأمم، أنّه لم يحتكم إلى مُنطلقاتٍ جماليّة فقط، بل كان مدفوعاً بهاجس التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية للساكنة الأوروبية في المغرب. إنّ هدف هوبير ليوطي تمثّل أساساً في اجتراح صورة معمارية تُدغدغ مَشاعر الفرنسيين وتجعلهم يُفكّرون في الانتقال للعيش بالبلد المُستعمَر مع شروط الاستثمار والعيش وإمكاناتهما. وبالتالي، كان الشارع والساحة معاً عبارة عن صُوَرٍ مُصغّرة عن مدنٍ عالمية أخرى اهتمّ بروست بتخطيطها الأثريّ وهندسة معمارها. لكنّه جعلها مطبوعة بمُختلف مظاهر التحديث والتمدّن التي ستُرافق الساحة إلى حدود الآن، والرغبة الدفينة لساكنتها في تقديم نمط عيشٍ اجتماعي يُحاكي الفرنسيين في تفكيرهم وحضارتهم وذوقهم. إذْ يُقدّم الشارع المُحيط بها نموذجاً اجتماعياً مغايراً للمقاهي والمطاعم والمحلات ذات النفس الباريس التي يتخلّلها معمار أندلسي/فرنسي/ إيطالي، ينعكس جماله على وحدة المدينة وإيقاعها البصريّ الحديث. إذ يُخيّل للجالس هناك أنّه في مدنٍ عالمية مثل باريس وإسطنبول، مع اختلاف في صورة بعض المباني الغارقة في النّمط الأوروبي الحديث. 

يتميّز المعمار بأسلوبه الحديث، فهو يستلهم سنده الفنّي من "آرت ديكو" ومن منابع أخرى تتعلّق بالطرز العربيّة الإسلامية وفق أشكال هندسية أصيلة تقوم على الانتقاء. وإن كانت ملامح "آرت ديكو| تبرز من خلال هندسة الأسوار وجدارياتها وما تتركه من ظلال تعطي للزائر بُعداً لا مرئياً لا تتحكّم فيه العَين فقط، بل تروي سيرته الحواس. لذلك فلا غرابة أنْ يعتبر أهل الفنّ والديزاين أنّ الدارالبيضاء تبقى مدينة آرت ديكو في العالم العربي بسبب وجود وتوافر كمية كبيرة من هذا الأسلوب الفنّي الذي ظهر منذ القرن نهايات الـ 19 بعدما ثار على آرت نوفو بمُختلف أساليبه الجماليّة داخل المعمار والتصميم الداخلي للبيوت والفنادق.

المساهمون