سؤال الترجمة إلى اللغة العربية مطروحٌ دائماً. مع صدور كتابٍ جديد مُترجم من لغة أجنبية، يُلحّ السؤال، لكنّ النقاش حوله غير كبير وغير مُفيد، فغالبية العاملين في الترجمة غير مكترثة بالسؤال، وبما يطرحه من عناوين وفضائح.
قليلون هم الذين يُتقنون الترجمة، وبعضهم راحلٌ منذ وقتٍ. قليلون هم الذين يتعاطون مع الترجمة كنصٍّ مؤلَّف، لا كنقلٍ من لغة إلى أخرى. قليلون هم الذين يمتلكون براعة التنقيب والتفتيش والاشتغال اللغوي والفكري في الترجمة. هذا غير محاصَر بالمكتوب فقط، لكنّ للمكتوب "عباقرة" في الترجمة، يتقلّص عددهم كثيراً في الأعوام الماضية، بل يكاد يختفي.
في المرئيّ، الكارثة أكبر وأخطر. الترجمة إلى العربية، المُرافقة لأفلامٍ وأعمالٍ درامية أجنبية تُعرض على الشاشات الكبيرة والصغيرة، وعلى المنصّات الموجّهة إلى العالم العربي، تُشير إلى نقصٍ في المعرفة اللغوية، المرتكزة على اللغتين (المُترجَم عنها والمُترجَم إليها) أولاً وأساساً، وفي اطّلاع وافٍ على الموضوع وتفاصيله وعالمه الثقافي والفكري ثانياً، وفي ما يُحيط بهذا كلّه من مصطلحات ورموز وحكاياتٍ، تحتاج إلى تنقيبٍ لا إلى مجرّد ترجمة عمياء، ثالثاً.
في المكتوب، يُمكن الاهتمام بهذا كلّه، شرط أنْ يُتاح للمترجم الحِرفيّ والمثقف وقتٌ ومال، من دون تناسي أهمية وظيفة المحرّر، الذي يُفترض به إكمال العمل الشاقّ والمهمّ للمترجم الحِرفيّ والمثقف. لكنّ هذا غير متاح في المرئي، فالحاجة كبيرة إلى ما يُعرض، ولا وقت لتنقيب وبحث وسؤال عن المعنى وما فيه وما وراءه وما يُشير إليه ويعكسه. هذا صحيح. لكن ترجمات المرئيّ، إلى العربية تحديداً، تحمل كمّاً هائلاً من فضائح، يُفترض بأي مترجم يُتقن حدّاً أدنى من عمله ألا يرتكبها، لبساطتها وشيوع مفرداتها وتقنياتها. المرئيّ يحتاج إلى كمٍّ هائل من أعمال وبرامج لتغطية 24 ساعة من البثّ الدائم. لهذا، لن تكون لحِرفية الترجمة إلى اللغة العربية أولوية أو اهتمام، وإنْ بالنسبة إلى أبسط الكلمات والمعاني، خصوصاً أنّ التزام ألفباء قواعد اللغة العربية غير محتاج لا إلى مال ولا إلى وقت ولا إلى جهدٍ، فهذه بديهيات يُتوقّع من كل عاملٍ في الترجمة أنْ يُتقنها.
هذا حاصلٌ في أفلامٍ ومسلسلات أجنبية كثيرة، تبثّها محطّات تلفزة وصالات سينما ومنصّات غربيّة تبثّ في دول عربية. إدراك الأخطاء منبثقٌ من معرفة باللغة العربية (ركاكة الترجمة تتّضح من دون معرفة اللغة الأصلية أساساً)، وباللغتين الفرنسية والإنكليزية، والمعرفة هذا تدفع المُشاهِد إلى تجاوز الترجمة لبلوغ النصّ الأصلي، فهذا أفضل وأكثر راحة له في تواصله مع ما يُشاهده. معرفةٌ تُنبّهه إلى فداحة الأخطاء، إنْ يلتفت ولو قليلاً إلى الترجمة العربية. والتنبيه يدفعه إلى التساؤل عن الفضائح الأخرى المتأتية من ترجمة أفلامٍ وأعمال مختلفة عن لغات يجهلها المُشاهد، كالإيطالية والألمانية والسويدية والإسبانية والعبرية، وفي هذه الأخيرة أكثر من لغةٍ/ لهجةٍ (اليديشية مثلاً)، يندر أنْ يُتقنها أحدٌ، بطلاقة أو من دونها.
متعمّقون عربٌ في اللغتين الفرنسية والإنكليزية يقولون إنّ في الترجمة إليهما أخطاء، تَرِد أحياناً في صوغ جملة، أو في معنى أو تعبير، وإنْ يكن حصول هذا نادراً. يسألون عمّن يُترجم، وعمّا لديه من تخصّص وكفاءة، يُتيحان له خوض مهنةٍ مترفّعة عن الوظيفة إلى الأعمق والأهمّ منها. يسألون: أيكون مترجمو الأعمال إلى إحدى اللغتين عرباً أم أجانب؟ ولهذا تأثيرٌ أيضاً في صناعة الترجمة.
مسألة أخرى: هناك تبديلٌ يحصل مع كلمات، يرى المترجم العربيّ أنّها مُحرّمة في الاجتماع العربي، كأنواع الخمور والشتائم والجنس والله وغيرها، فيضع تعابير عربية، موجودة بحدّ ذاتها في اللغة العربية، لكنّها غير متناسقة البتّة مع المفردات الأجنبية. أيُعقل لأحكامٍ أخلاقية أن تمنع وتُجيز قولاً أو مفردة، تُشكِّل جزءاً أساسياً من لغة شخصيات مستلّة من واقع وتاريخ؟ إنْ يكن هذا مقصوداً، فلماذا اختيار أعمالٍ أجنبية مليئة بمحرّمات وموانع عربية؟
أيّ ترجمةٍ تُبثّ على شاشات الصالات والتلفزيونات والمنصّات، إذاً؟ المساحة الواسعة جداً، التي تمنحها المنصّات لأفلامٍ وأعمال غير فرنسية وغير إنكليزية ـ أميركية، تحرِّض على سؤال الترجمة إلى اللغة العربية، انطلاقاً من التجربة السيئة لهذه الترجمة عن اللغتين الأكثر شيوعاً في العالم العربي: الفرنسية والإنكليزية. "نتفليكس" مثلاً تبثّ أعمالاً إسرائيلية، باللغة العبرية، وبعض الأعمال يتضمّن اليديشية في حواراتٍ متفرّقة. من يُترجم عن العبرية، ومن يُراقب الترجمة عن العبرية، ومن يُصحِّح وينتبه؟ هل يُسمح للمترجم باستخدام مفرداتٍ، عن قصد، غير متوافقة أبداً مع المقصود منه في كلمات وجمل عبرية، وغير عبرية أيضاً؟
الشكّ في الترجمة إلى اللغة العربية يدفع إلى اعتماد إحدى اللغتين الأكثر شيوعاً في متابعة فيلم أو عمل غير فرنسي وغير ناطقٍ باللغة الإنكليزية، علماً أن الإنكليزية في بريطانيا وإيرلندا واسكتلندا وغيرها في المملكة المتحدة تختلف، نُطقاً ونبرة وتعابير، عن إنكليزية الولايات المتحدة الأميركية. فهل تولي المؤسّسات الإعلامية أهمية لهذا كلّه، في تكليفها أناساً يُترجمون عنها وعن تشعّباتها اللغوية والاجتماعية والفكرية؟
سؤال الترجمة يُصبح معضلة، ثقافية واجتماعية ومهنية وأخلاقية، في عالمٍ يزداد انهياراً في مسائل عيشٍ وحياة وعلاقات ومفاهيم. في عالم يفقد، يوماً تلو آخر، حدّاً أدنى من أصول مهنٍ وقواعدها الأساسية، على الأقلّ.