تنضمّ التونسية مفيدة التلاتلي إلى راحلين يغادرون، واحداً تلو آخر، بصمتٍ. المولِّفة الأشهر في السينما العربيّة تغيب (7 فبراير/ شباط 2021) قبل أشهرٍ قليلة على بلوغها 74 عاماً (4 أغسطس/ آب 1947). أهميتها كمولِّفةٍ لأفلامٍ عربيّة ـ بعضها يُعتبر الأبرز والأهمّ والأعمق في قراءة حالات وانفعالات، وفي طرح أسئلة، وفي صُنع اشتغالاتٍ تُجدِّد في مفهوم الصورة العربية وارتباطها ببيئة واجتماع وأفرادٍ وتفاصيل ـ تُستَكمل في إخراجها "صمت القصور" (1994)، المنخرط في تجديد ذاك المفهوم وتلك الصورة.
لها فيلمان آخران كمخرجة: "موسم الرجال" (2000) و"نادية وسارة" (فيلم تلفزيوني، إنتاج المحطة التلفزيونية الفرنسية الألمانية "آرتي"، 2004). لكنّ "صمت القصور" تصعب مضاهاته. تاريخ بلدٍ عبر حكاية شابّة تبحث عن سيرتها في قصر أحد "بايات" ما قبل الاستقلال، تُترجمه التلاتلي صُوراً وألواناً وإدارة بارعة للتمثيل، فبفضلها تبرز هند صبري، التي تُصبح ممثلة محترفة، تُتقن فنّ التلاعب بالشخصيات والأدوار، كي تُخرج من الممثلة التي فيها أفضل ما تحتاجه الشخصية، ويريده الدور.
"صمت القصور" يتعمّق في أحوال شابّة تحترف الغناء، واكتشافها أنها حامل ممن يرفض إجهاضها، يأخذها إلى ماضٍ وحكايات، بعضها مرتبط بها وبوالدتها، الخادمة سابقاً في قصر الـ"باي" ذاك، وبعضها يعكس شيئاً من حكم الـ"بايات"، وإنْ مواربة.
هذا يختفي قليلاً في "موسم الرجال". جماليّة النحت في الذاكرة والتاريخ، عبر لغة الصورة وفنّ التمثيل، في "صمت القصور"، لن تعثر على مفرداتها في "موسم الرجال"، الذي تنتقل به مفيدة التلاتلي إلى "جربة" التونسية، وإلى عالم نساءٍ وحيداتٍ في غياب أزواجهنّ العاملين في العاصمة. يومياتهنّ محفوفة بقهرٍ صامتٍ، فالحاجة إلى رجالهنّ أقوى من احتمال غيابهم، والشهر الواحد كل عام غير كافٍ لهنّ معهم. قبل عامين عليه، يُنجز المصري رضوان الكاشف "عرق البلح" (1998). يختار بيئة نسائية تنعزل عن العالم ويغيب رجالهنّ للعمل بعيداً. المقارنة بين الفيلمين تنبثق من تشابهٍ في مناخ دراميّ، لكنّ للكاشف حِرفيّة التوغّل في أعماق النساء بحساسية، تبرع ممثلاته (شريهان وعبلة كامل ومنال عفيفي تحديداً) في إظهارها بحركة أو ملمح أو نبرة أو قولٍ أو نظرةٍ أو صمتٍ. نساء "موسم الرجال" (ربيعة بن عبدالله وغالية بن علي وهند صبري أيضاً)، رغم براعتهنّ في إبراز شيءٍ من انفعالاتهنّ ومخاوفهنّ، يبقين في دائرة سينمائية تخفّ جمالياتها، وتُبسَّط اشتغالاتها.
المرأة وعالمها وانفعالاتها محورٌ أساسيّ في سيرة المخرجة مفيدة التلاتلي. فـ"ناديا وسارة" (تمثيل هيام عبّاس ودرّة زرّوق) يستند إلى أمٍ وابنتها، في لحظتين أساسيّتين في حياتهما: انقطاع الحيض والمراهقة. اشتغالٌ عاديّ، سيكون آخر إخراجٍ لمولِّفةٍ، تُعيَّن وزيرة للثقافة التونسية في "حكومة الوحدة الوطنية" (17 يناير/ كانون الثاني 2011) مباشرة بعد "ثورة الياسمين" (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ـ 14 يناير/ كانون الثاني 2011)، ثم تستقيل بعد 10 أيامٍ فقط، لتوقيعها (صيف 2010) على بيانٍ يدعو الرئيس زين العابدين بن علي إلى الترشّح مجدّداً لرئاسة الجمهورية، في دورة العام 2014.
أعوامٌ عدّة تمرّ من دون اشتغالٍ سينمائيّ لها. التوليف معها ـ كمهنة وفنّ وابتكار ـ يندرج في إطار ثقافة سينمائية تقول بأنّ "الفيلم يُصنع فعلياً في غرفة المونتاج". أما "صمت القصور"، فلحظةٌ تمتلك خصوصية التجريب، وتبقى وحيدةً في سيرتها المهنيّة كمخرجة.