رحيل بيتر بوغدانوفيتش: ميلانكوليا السينفيليّ

12 يناير 2022
بيتر بوغدانوفيتش: إرثٌ مُركَّب (إيما ماكِنْتاير/Getty)
+ الخط -

بإعلان رحيل بيتر بوغدانوفيتش (82 عاماً)، في 6 يناير/كانون الثاني 2022، في منزله في لوس أنجليس، يُسدل ستارٌ آخر على حقبة سينما "هوليوود الجديدة"، التي كان بوغدانوفيتش أحد أهم رموزها، في بداية سبعينيات القرن الـ20، بفضل 3 أفلام طويلة، حقّقت نجاحاً مُدوّياً في الصالات، وإشادة النقّاد، أبرزها "العرض الأخير" (1971)، فيلمه الأشهر، الذي سجّل يوميات شبّان يعوّضون خواء حياتهم ـ في المدينة الصغيرة "آنارين"، بأجوائها التي تُحيل إلى قرى الـ"وسترن" ـ بارتياد أفلام العصر الذهبي لهوليوود، في صالة سينمائية تشهد آخر عروضها قبل هدمها.

قمّة لن يبلغها مجدّداً أبداً، رغم إشراقات يشهدها مساره، بعد توالي إخفاقات أفلامه المُنجزة في النصف الثاني من السبعينيات نفسها، واتّخاذه قرارات خاطئة، وحدوث خلافات مع الاستوديوهات الكبرى للإنتاج، بخصوص شكل توزيع أفلامه وحقوق التوزيع، والصدمة النفسية التي أبعدته عن الإخراج 5 أعوام، إثر مقتل عشيقته دوروتي سترَتن على يدي زوجها السابق، مباشرة بعد انتهاء تصوير "جميعهم ضحكوا" (1981)، الذي لعبت فيه أول دور بطولة لها.

إرثٌ مُركّب، يمتزج فيه شغف السينفيلي الناقد ـ الذي حاور عظماء هوليوود، من جون فورد إلى ألفريد هيتشكوك، مروراً بهاورد هوكس، ومعلّمه الأكبر أورسون ولز ـ ببصمة مخرج مُتفرّد، لم يكفّ ـ كجميع المؤلّفين الكبار ـ عن التوفيق بين الأضداد: سحر هوليوود العتيقة، بأفلامها المغرقة في كلاسيكية الأحاسيس، والتغزل في النجوم وصنع الأساطير، من جهة؛ ونَفَس التجديد في الأشكال والأساليب، المُقبل من السينما الأوروبية، مقروناً بإلحاح الانكباب على ثيمات حارقة من الراهن الأميركي، كحرب فيتنام، وتقلّبات السياسة الناتجة من انهيار منظومة القيم، من جهة أخرى.

انخراطٌ جذري في سجل رهافة الأسلوب ودقّة الطرح ـ على غرار هال آشبي، العظيم الآخر المنسيّ من حقبة "هوليوود الجديدة" ـ الذي يتطلّب جهد عينٍ فاحصة وفراسة ممحّصةً، يقطع مع سهولة التلقي والتصنيف، ويُفسّر لما لمْ يلق منجزه الفيلمي، مع مضي الزمن، الانتشار والاحتفاء الجماهيريين والنقديين نفسيهما اللذين راكمتهما أفلام مجايليه، فرنسيس فورد كوبولا وستيفن سبيلبيرغ وبراين دي بالما وويليام فريدكين؛ وكيف أصبحت غالبية المُشاهدين من الأجيال الجديدة تُقرن صورتها بأدوار صغيرة، لعبها في مسلسلات "آل سوبرانو" و"كيف التقيتُ أمّك"، إذا لم يسمعوا صدى الاعتراف المحتشم بتأثيره، من أفواه أحد مخرجيهم المفضّلين، ككوانتين تارانتينو ووس أندرسن ونواه بومباك، عوض أنْ يروا فيه مخرج جواهر أصلية، كـ"دايزي ميلر" (1974) و"القديس جاك" (1979)، تستحقّ مسح الغبار المتراكم عليها، والتأمّل في ثرائها الجمالي.

وُلِد بوغدانوفيتش في نيويورك، في 30 يوليو/تموز 1939، في عائلة يوغوسلافية الأصل، مُتشبّثة بلغتها وثقافتها، ما يُفسّر الرافد الأوروبي الذي غذّى رؤيته. انجذب، منذ شبابه، إلى خشبة المسرح، تمثيلاً وإخراجاً لأعمال من ريبرتوار شكسبير، وأخرى كوميدية في برودواي، بالتوازي مع مُشاهدته الأفلام، بإيقاع نهمٍ، مُدوّناً ملاحظاته الكثيرة حولها، قبل انكبابه على كتابة النقد السينمائي في مجلة "إسكواير"، رائدة الصحافة الجديدة. اشتغاله في النقد عاملٌ حاسمٌ في تطوير معرفته بالسينما، ولقاء مخرجين عظام سيطبعون رؤيته: "السينما تشبه سباقات التناوب، نوعاً ما. تجري مع شاهد في يدك، وفي مرحلة مُعيّنة، ينبغي عليك أنْ تُمرّره. كنتُ محظوظاً جداً أنّ أناساً، كأورسون ولز وجون فورد وهاورد هوكس وألفريد هتشكوك وجان رونوار، كانوا أسخياء بوقتهم معي. درستُ أعمالهم، وتعلّمت منها الكثير. تعلّمتُ أيضاً الكثير منهم كأشخاص. اليوم، هناك مخرجون يقولون إنّهم تعلّموا من أفلامي. هذا معطى مهمّ، يتعلّق بضرورة تمرير الشاهد من جيل إلى آخر، ويساعد على إخراج عمل الجميع بشكل أقوى".

أول احتكاك له في كتابة السيناريو والمُساعدة في الإخراج كان مع تجربة مدرسة روجر كورمان في تحقيق أفلامٍ بموازنة ضئيلة، وقيمة فنية مُضافة عالية، في آجال تصوير قياسية. هذا قبل أن يُنتج كورمان باكورة أعماله، "أهداف" (1968)، مقترحاً عليه أنْ يمثّل فيه أسطورة أفلام "الصنف ب"، بوريس كارلوف، لأنّه يدين له بيومي تصوير. في هذا الفيلم الأول، المُدهش بالنضج الباكر، وبالتحكم الذي ينضح من كلّ مشاهده، يتقاطع مسار شخصين سئما تكاليف الحياة، في عرضٍ ليلي في سينما "درايف ـ إن": شابّ مُجنّد سابق في حرب فيتنام، يعيش مع عائلةٍ مفرطة في الاعتياد والسطحية، ويهوى ممارسة الرماية بالأسلحة النارية مع والده، قبل أن تنشأ فيه تدريجياً نزعة اقتناص أهداف بشرية؛ وبايرون أورلوك (كارلوف، في آخر ظهور له على الشاشة الكبيرة)، النجم السابق لأفلام الرعب، الذي يقرّر وضع حدٍّ لمساره الطويل، رافضاً عرضاً من المخرج الشاب سامي مايكلز بالتمثيل في فيلمه المقبل، وممضياً جُلّ وقته في احتساء الكحول في الفندق.

كلّ شيءٍ كان هناك منذ البداية: نزعةُ تَمَثُّلِ السينما في السينما؛ الجنوح إلى رواية قصص تشيّع أشياء اختفت، أو في طور الاختفاء، مع شخصيات ميلانكولية؛ المزاوجة بين رثاء الماضي الذهبي للسينما، والتفكير في الحاضر المقلق لأميركا؛ التساؤل عن ماهية السينما، بتخيّل التقاء الخيال ـ المُنعكس على الشاشة ـ بكوابيس الحياة "الحقيقية" (المشهد الأنطولوجي للقنّاص مشتّتاً بين بايرون، المقبل عليه دماً ولحماً، وصورته على الشاشة).

بعد النجاح الساحق لـ"العرض الأخير"، لقي فيلمان لبوغدانوفيتش إقبالاً في شبّاك التذاكر، وإشادة نقدية: الأول "بايبر مون" (1973)، قصّة محتال (راين أونيل) مُتجوّل في كانساس، إبّان فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الـ20، يلتقي فتاةً يتيمة (تاتوم، الابنة الحقيقية لأونيل)، فيُشكّلان معاً ثنائيَّ نَصبٍ فعّالاً، تساهم الظروف الصعبة، وصدفة التحدّيات على الطريق إلى ميزوري، في خلق رابط أبوّة حانية (ثيمة تمرير الشاهد)، صوّرها المخرج بمزيج من مهارة هوكس في ضبط الإيقاع، وعبقرية فورد (جوهرية "عناقيد الغضب") في التقاط الأجواء، بتشكيل اللقطات العامة. والثاني بعنوان "ماذا هناك دكتور؟" (1972)، كوميديا "سكروبول"، تمثيل أونيل أيضاً وباربرا سترايسند.

الأفلام الـ3 الموالية أخفقت كلّها في شبّاك التذاكر، لأسبابٍ مختلفة: "ديزي ميلر"، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (1978) لهنري جيمس، يُعدّ عملاً تاريخياً بديعاً، شكلاً وأداءً، وحمّالاً لطرحٍ مُتفرّد، يعكس انشغال المخرج بثنائية الأميركي ـ الأوروبي، وجدلية النظرة التي يُلقيها كلّ واحدٍ منهما على الآخر، لكنّه لم يكن ينطوي على أيّ مقومات نجاح تجاري: "لو كنتُ ذكياً في اختياراتي، لما أنجزته. لم يكن ينبغي عليّ إنجاز شيءٍ غير تجاري تماماً كهذا. أهدرتُ الثقة التي كانت تضعها الاستوديوهات في عملي، فبدأتْ تشكُّ في إمكانيتي بتحقيق أفلامٍ أخرى مثله، لا تولي اهتماماً لحسابات شبّاك التذاكر، ما ساهم في إفساد الفيلمين المواليين".

أمّا "نيكلوديون" (1976) ـ الذي يُعيد الوصل مع ثيمته المفضّلة في التفكير في "السينما في السينما"، مُعتمداً على قصص سمعها من آلان دوان، أحد مُخرجيه المفضّلين من زمن السينما الصامتة، وراوول والش ـ فخرج في صورة تخالف إرادته كمخرج، بدءاً من صيغة الألوان بدل الأسود والأبيض، الذي يُترجم نظرته الجمالية بشكلٍ أفضل، وضغط الاستوديو لتعزيز طابع الكوميديا بدلاً من سوداوية الجانب الرثائي، وقصّ بعض المشاهد المهمّة التي أثّرت، بنظره، على تلقّي العمل، بشكل جوهري.

 

 

مع "القدّيس جاك"، استرجع بوغدانوفيتش مقوّمات كثيرة من بدايته، مُقتبساً رواية بالعنوان نفسه (1973) لبول ثيرو، إحدى الروايات المفضّلة لأورسون ويلز: قصّة قوّاد أميركي يطمح إلى تحويل قصرٍ بريطاني، مُتخلّى عنه في سنغافورة، إلى بيت دعارة، فيتورّط في قضية ابتزاز سياسي. فيلمٌ ضاجّ بالصدق، وخلفية توثيق الحياة في سنغافورة قبل أنْ تغزوها مظاهر التقدّم الكاسح. نزعة القبض على الأشياء الماضية في طور الاضمحلال، مرة أخرى، مقرونة بهوى "كاسافيتيسي" (نسبةً إلى جون كاسافيتس) واضح، ليس الحضور الطاغي لبِن غازّارا، في دور جاك، تجلّيه الوحيد. بطلٌ بالغ الإنسانية، تلتقطه كاميرا روبّي ميلر على ارتفاع آدمي، وكلّ شيء يجري برهافة ورقّة في باطن النص، من غير أنْ يمنع ذلك من ترك أثر قويّ ومستحكم في وجدان المُشاهد.

"القديس جاك" فيلمٌ كبير، عن الاختيار الأخلاقي على خلفية حرب فيتنام، من دون خطابات سياسية متضخّمة، أو كليشيهات حروب العصابات، ما يذكّر بأفلامٍ أخرى، كـ"بوّابة الجنّة" (1980) لمايكل تشيمينو، شكّل فشلها النسبي في شباك التذاكر مؤشّراً على نهاية عصر "هوليوود الجديدة"، ونشوء "هوليوود البلوكباسترز والأبطال الخارقين": "بعد فشل 3 أفلام متتالية، توقّفتُ لوهلةٍ، وأردتُ فهم ما يجري. من الأشياء التي رغبت في فعلها، الذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة عن هوليوود وكاليفورنيا. سنغافورة فعلاً أبعد نقطة ممكنة. لم يكن هناك أيّ فيلم أنجز هناك، أو استديو، أو صناعة أفلام. الأمر الثاني المهم، أنّي أردتُ العودة إلى الجذور، إلى ما جعلني أقدِمُ على صنع الأفلام منذ البداية، رفقة روجر كورمان (...). أنجزتُ الفيلم مع فريق صغير، من 10 أو 12 شخصاً. ممثلون كثيرون لم يكونوا محترفين. الهدف إنجاز فيلمٍ عن ثيمةٍ ذات ارتدادات أخلاقية وسياسية، لا يُكلّف مالاً كثيراً، مع قيمة مضافة عالية، يخرج في الشكل الذي أردته عليه".

بعد "القديس جاك"، حقّق بيتر بوغدانوفيتش "جميعهم ضحكوا". عملٌ آخر من هذه الفترة، انتهى بخلق صيت الفيلم النسك (من أفلام تارانتينو المفضّلة)، لفرط ذكاء حبكته وحواراته. حبكة تتّخذ من تحقيق خاصّ ـ يقتفي أثر سيّدة (أودري هيبورن) بتكليف من زوجها، الذي يشكّ في خيانتها ـ ذريعةً لمخطّط تقاطع آسر بين شخصيات صبيانية، مُفعمة بالحبّ والغرارة، لا تكفّ عن الحركة وسط نيويورك، بداية الثمانينيات الماضية. لكنّ اغتيال ستاتون، في فترة توليف الفيلم، والمداخيل الهزيلة التي جناها، خاصّة بعد انسحاب "فوكس"، مُجبرةً بوغدانوفيتش على توزيع الفيلم بإمكاناته الخاصة، شكّلا ضربة قوية لمساره في الحياة والسينما، لم ينجح فعلاً في النهوض منها.

عام 1984، وضع بوغدانوفيتش مؤلّفاً رقيقاً ومؤثّراً، في رثاء دوروتي سترَتن، عَنونه "الإجهاز على اليونيكورن"، أُضيف إلى لائحة مؤلّفاته الثمينة في النقد السينمائي، التي تُشكّل مرجعاً مهمّاً لفهم عمل وأساليب اشتغال عددٍ من أبرز معلّمي السينما.

في أحد مشاهد "أهداف" (1968)، ينظر بيتر بوغدانوفيتش ـ في شخصية المخرج الشاب سام مايكلز ـ إلى لقطة من "قانون الجريمة" (1931)، لهاورد هوكس، على شاشة التلفاز، ويهمس لنفسه: "إنّه يعرف حقّاً كيف يحكي قصّة". ثم يقول: "كلّ الأفلام الجيّدة أُنجزت". في نظر جان ـ بابتيست توري، الذي جَمع حواراته الطويلة مع بيتر بوغدانوفيتش في كتاب بعنوان "السينما بمثابة رثاء" (2018)، تلخّص هذه الجملة الأخيرة، بغض النظر عن عدم صحّة معناها المباشر، العلاقة المعقّدة للمخرج بالسينما، مُعتصرةً روح جمالية السينفيليا الممتزجة بالميلانكوليا.

حقّق بيتر بوغدانوفيتش السينما برؤية شخصٍ جاء متأخّراً، مباشرةً بعد انقضاء الزمن الذي ودّ لو عاشه، فقضى جُلّ وقته وتركيزه في مرافقة مُعلّمين من الجيل السابق ودراستهم، ورثى بأعمال خالدة إرث عصر ذهبيّ مضى إلى غير رجعة.

المساهمون