تَملّك حزنٌ كبيرٌ السينمائيين والمتتبعين منذ أنْ نعى "معهد لوميير" في ليون (فرنسا) رحيل المخرج الفرنسي برتران تافرنييه، في 25 مارس/ آذار 2021، برسالة مقتضبة ذات طابع عائلي، يوضح مدى امتزاج العملي بالحميمي في حياة رجلٍ، كرّس حياته للشغف بالسينما، بالمعنى الأولي وغير المبتذل للتعبير، وبشتّى الطرق والوسائل المتاحة له. مخرج وكاتب ومنتج و"مُمرِّر" للـ"سينفيليا"، نقداً وخطاباً وحوارات مع مخرجين آخرين: تعدّدت الزوايا التي قارب بها الخلق، لكنّ جوهر عمله ونشاطه الدؤوب كان، دائما، فضول اكتشاف المزيد، ثم اقتسامه مع بقية العالم، أفلاماً وكتابةً وتدخّلات مُصوّرة (هناك مئات المُشاركات في برامج السينما، والمواد الإضافية لأقراص الأفلام الـ"دي. في. دي.")، مُزيلاً، في كلّ مرّة، بمنتهى السخاء والصدق، غبار النسيان والجحود عن قصص وعوالم وأعمال غبنها الزمن، وعن مخرجين يستحقّون أكثر مما نالوا من المُشاهدة والتّخليد.
فنّ الحياة
لا يُمكن أن تستمع إلى استرسال برتران تافرنييه، الملمّ والعارف، مُتحدّثاً عن السينما، من دون أن تخرج بلائحة أفلامٍ، ينبغي أن تُشاهَد لهذا السبب أو ذاك، وبأسماء مخرجين يوصيك باكتشافهم، تسمع عنهم غالباً للمرّة الأولى. كان السينمائيّ يمتلك العبارة المناسبة والكلمات المُلهمة لوصف الإحساس الدقيق، الذي ينتابه أمام فكرة إخراجية متفرّدة، أو مقطع موسيقيّ يؤجّج المشاعر، أو جملة حوار تفتّقت عنها موهبة كاتب سيناريو، أو أداء فارقٍ لممثّل.
منذ أنْ رأى النور في ليون (25 أبريل/ نيسان 1941)، من أبٍ كاتب ومُقاوِم (روني تافيرنييه، 1915 ـ 1989)، وأمٍّ (جنفياف دومون، 1918 ـ 2002) بارعة في الطبخ، "علّمته فنّ الحياة، وبراعة الترحيب، وحسن استضافة الآخرين"، ترعرع تافرنييه في بيئة مشبعة بالأدب، مكتشفاً بفضلها أعمال إميل زولا وفكتور هوغو وألكسندر دوما، التي طبعت بشكل دامغ ومستدام حساسيته الفنية، قبل أنْ تؤدّي إصابته بمرض السلّ في سنّ باكر إلى اكتشاف السينما في قلب "ساناتوريوم" العلاج، فتعلّم منها ملكة الحلم والتشبّث بالحياة رغم صعوباتها. انتقاله إلى باريس، حيث اكتشف بفضل زميله في الثانوية فولكر شلوندورف السينماتيك الفرنسية، فَتَح أمامه آفاق اكتساب ثقافة سينمائية متينة، بفضل مُشاهداته السجاليّة، والنقاش الغني والمحتدم في نادي سينما "نيكيلوديون"، الذي ساهم في إنشائه، أو على صفحات المجلات المتخصّصة، التي بدأ ينشر فيها مقالاته النقدية.
سعيه إلى الاستقلال المادي، رغم معارضة والده، الذي كان يُعدّه بالأحرى لمسار مسؤول إداري أو سياسي، أدّى به إلى ممارسة السينما من زاوية الملحق الصحافي، الضيقة نوعاً ما، من دون أنْ يتخلّى عن واجب الدفاع عن رؤيته للسينما المتفرّدة، ومواصلة اكتساب المعرفة وفق شعار "كلّ ما أنجزته كان بدافع التعلّم"، الذي لا يكلّ عن ترديده عن المخرج البريطاني مايكل باول، أحد مُثُله العليا، بالإضافة إلى جان ـ بيار ملفيل، الذي فتح له أبواب الاحتكاك عن قرب بصنعة السينما وبلاتوهات التصوير، كمساعد مخرج.
ما يُميّز أفلام برتران تافيرنييه (له 24 فيلماً روائياً طويلاً، إلى أفلامٍ قصيرة ووثائقية، وأعمال تلفزيونية مختلفة)، نزعته إلى ردّ الاعتبار إلى سينما تولي الاهتمام بالسرد وفق مقاربة كلاسيكية في العمق. هذا ظهر منذ أفلامه الطويلة الأولى، "ساعاتي سان بول" (1974) و"القاضي والقاتل" (1976)، التي لاقت نجاحاً جماهيرياً نسبياً، واستحساناً لدى النقّاد، لكنّها جرّت عليه ضغينة دفينةً في قلوب أغلب روّاد "الموجة الجديدة"، بحكم أنّه لم يجد غضاضة في التعاون مع رموز سينما "الجودة الفرنسية"، ككاتبَي السيناريو جان أورنش وبيار بوست، ما اعتُبر تحدّياً غير مباشر لأطروحة القطيعة مع سينما الماضي. ظلّ تافيرنييه ينفي هذا كلّما سنحت له الفرصة، مؤكّداً أنّ "المرء لا يمكن أنْ يُفني 3 سنوات من عمره في إنجاز فيلمٍ، فقط كي يُثبت أنّ شخصاً آخر لم يكن مُصيباً في آرائه".
أقواس وتوقّعات
وفاءً لولعه المزدوج بالتاريخ والأدب، أولى اهتماماً خاصاً بكتابة سيناريوهات أصلية، متجذّرة في الماضي: "فلتبدأ الحفلة..." (1975)، حول دسائس السلطة ـ في فترة الوصاية ـ على لويس الـ15، بداية القرن الـ18؛ و"أميرة مونبونسييه" (2010)، المقتبس عن قصة مدام لافاييت بالعنوان نفسه (1662). ذهب إلى حدّ تغيير معالم روايات أخرى غير معروفة، وفق مقاربة تاريخية، كما فعل باستبداله أجواء الجنوب الأميركي في الرواية البوليسية "1275 روحاً" (1964) لجيم تومسون بفضاء الغرب الأفريقي تحت سطوة الاستعمار الفرنسي، في Coup De Torchon، المُنجز عام 1981. ويبقى فيلماه "الحياة ولا شيء سواها" (1989) و"كابتن كونان" (1996)، عن الحرب العالمية الأولى وانعكاساتها المأسوية، من أروع ما أنجز في الإطار التاريخي، بفضل مقاربة النوع، الحاضرة في كليهما، وهذه من أبرز نقاط قوة رؤية تافيرنييه، المنبثقة من "سينفيليّته".
الأول، باعتباره قصّة حب مستحيل بين قائد وأرملة عسكري مختفٍ، رغم طرحه المغرق في الإنسانية حول معنى الذاكرة، ورفض حصر تضحيات مئات آلاف الجنود في تماثيل من الرخام، ومعالم تذكارية بائسة، بينما يتمّ تزوير الحقائق التاريخية بإخفاء العدد الحقيقيّ للقتلى من الجنود غير الفرنسيين، الذين قضوا في الحرب؛ والثاني، لكونه مرافعة بليغة، في قصّة صداقة بين عسكريَّين زمن الحرب، فرّقتهما عبثية البنيات السلطوية العسكرية في أزمنة السلم، حين تسارع (السلم) في أكل أفضل أبنائها بمجرّد استغلالهم لتحقيق الانتصار.
نظرة قاتمة (تُذكّر بأدب سيلين)، يتّخذ منها المخرج وسيلة لفتح الأعين على عبثية الحروب، ومآسي الاستعمار، وغياب العدالة، والتمييز العرقي، وغيرها من الاختلالات المجتمعية، بما في ذلك نظرته الرؤيوية حول مخاطر تغوّل وسائل الإعلام، التي استشرفت مجتمع "تلفزيون الواقع" في "الموت على المُباشر" (1980)، بالإضافة إلى التفاصيل التي استشرفت، بشكل مدهش ومُحيّر، المصير المأساوي لبطلة الفيلم، رومي شنايدر، ومعاناتها من تجاوزات صحافة الـ"باباراتزي"، بعد أقلّ من عامين على إطلاق عروضه.
فتح برتران تافرنييه أيضاً أقواساً حميمية في مُنجزه، لم تحضر فيها نزعته إلى تحريك الحشود، وتصوير الطبيعة بشكل مفتوح على السهول الشاسعة والتلال المترامية (كما في أفلام جهابذة الوسترن الأميركيين، المُفضّلين لديه). لكنّها لم تخلُ من تسامي الأحاسيس المتماهية مع الشرط الإنساني، كما في رائعته "يوم أحد في الريف" (1984)، عن فنان تشكيلي في خريف العمر، لا تؤدّي زيارة ابنه ـ المُمعن في السطحية والامتثال (رفقة أسرته الصغيرة)، وعبور خاطف وعاصف لابنته المتمرّدة على الأعراف من فرط تشبّعها بالحياة ـ سوى إلى تأجيج عزلته، وانزوائه في تأمّلات وجودية، تمتزج بأجواء الغروب، موحيةً بدنوّ الرحيل، استوحى المخرج ألوانها، بضربة عبقري، من اللوحات الانطباعية لأوغوست رونوار.
عُرف عن برتران تافرنييه مهارته الكبيرة في إدارة الممثلين، واعتماده المتكرر على بعضهم، تصديقاً لتأثّره بنمط الاشتغال المسرحيّ، القائم على الفرقة، وأهمية الحوارات في البناء الدرامي والجمالي للمَشَاهد. هنا تذكيرٌ بتعاونه المثمر مع فيليب نواري وجاك غامبلان وسابين آزيما وفيليب تورّتون. وفاؤه لممثّلين مُتعاونين معه انسحب على مؤلّفي الموسيقى أيضاً، أمثال الأخوين فيليب وآلان سارد، وأوزفالد داندريا، الذين يقتسمون معه الاقتناع بمكانة الموسيقى في قلب المعادلة الجمالية، كداعم للإيقاع والإحساس، ما يُحتّم بالتالي الشروع في تصوّرها والاشتغال عليها منذ المراحل الباكرة لسيرورة إنجاز الفيلم. لعلّ هذا يُفسّر اهتمامه بموسيقية الحوارات نفسها، وكيف أنّ جُلّ أفلامه تحتوي على أغنية أو أكثر، باعتبار أنّ الغناء يجسّد التناغم المطلق، والحلقة الرابطة بين الحوار والموسيقى.
كتابة وموسيقى
ولع تافرنييه بالموسيقى، خصوصاً الجاز، شكّل رافداً لأفلام محورية في مساره، أبرزها "حوالي منتصف الليل" (1986)، المستَلهَم من حياة تينور الساكسفون ليستر يونغ، وعازف البيانو بود باول؛ والوثائقي "ميسيسيبي بلوز" (1983)، بإخراجٍ مشترك مع الأميركي روبرت بارّيش. لكنّ أكثر أفلامه الوثائقية أهميةً ووقعاً يبقى مشروعه الأخير، وربما الأكثر طموحاً (اشتغل، في السنوات الأخيرة، على جزء ثانٍ منه، كان من المقرّر أنْ تُطلق عروضه قريباً): "رحلة عبر السينما الفرنسية" (2016)، المُكرّس لاقتسام شغفه بالسينما الفرنسية، مُستغلاً معرفته الموسوعية بعصرها الذهبي، لتعريف الجمهور بأهمّ مخرجيها، لكنْ أيضاً بمبدعين متفرّدين، أمثال جيل غرانجي وجان غريميون، طاولهم حيف سوء التقدير النقدي، أو حالت اعتبارات غير فنّية دون أنْ تَلقى أفلامهم الاحتفاء والانتشار اللائقين بها.
هذا كلّه من دون نسيان إسهاماته ككاتب، المؤثّرة في مجال التأليف النقدي، وأبرزها المؤلّف ـ المَعلمة "50 عاماً من السينما الأميركية" (1991)، الذي كان مُقرّراً إصدار طبعة جديدة له بعنوان "70 عاماً من السينما الأميركية"، في العام الجاري؛ وكتاب حواراته المرجعيّ مع مُخرجين أميركيين، بعنوان "أصدقاء أميركيون: حوارات مع كبار مؤلّفي هوليوود" (1993)، وكتاب حوارات نويل سيمسولو معه، ذو العنوان الدال: "السينما في الدم" (2011).
سَرَت السينما فعلياً في عروق برتران تافرنييه بمثابة الدم، وحرّكت جوارحه ومواقفه وكلّ اختياراته في الحياة. "الماضي لم يمت قطّ، بل لم يمضِ حتّى"، كان لا يفتأ يكرّر، مُستشهداً بويليام فوكنر، أحد الكتّاب المُفضّلين لديه.
لم يمت من ترك إرثاً فنياً وإنسانياً بعظمة إرث برتران تافرنييه... ولن يمضي.