في تسعينيات القرن الماضي انتشرت أغنية "صبري عليك طال" في مصر. انتشرت الأغنية من دون معرفة صاحبتها، لكن كانت بصمة حميد الشاعري، المتربع على عرش الأغنية المصرية في تلك الفترة، كافية لتجعل من أي أغنية مشروع Hit.
سرعان ما فتح نجاح الأغنية، أبواب مصر أمام فنانة مغربية شابة ومغمورة تدعى رجاء بلمليح (1962 ــ 2007)، التي تحوّلت في فترة قصيرة إلى واحدة من نجمات المشهد الموسيقي العربي.
مسيرة هادئة، بلا مشاكل ولا سجالات، عرفتها بلمليح خلال عمرها القصير الذي انتهى في سبتمبر/أيلول 2007، حين رحلت إثر إصابتها بسرطان الثدي عن 45 عاماً. هذا الهدوء أسقط بلمليح، رغم موهبتها الكبيرة، من ذاكرة الأغنية العربية الحديثة، حتى في بلدها الأم، المغرب.
في ذكرى رحيلها، نستعيد مسيرة بلمليح، وتجربتها الموسيقية الثرية والمختلفة عن السائد في تلك المرحلة.
المغرب
ولدت بلمليح في الدار البيضاء، وكان والدها مطرباً هاوياً، لم يعرف الشهرة أو النجاح، لكنه أتاح لابنته الاطلاع على مختلف المدارس الموسيقية المنتشرة في المغرب من الأندلسية إلى المغربية إلى المصرية، وبالفعل امتصت رجاء الطفلة كل ما قدّمه لها والدها الذي تلقّف موهبتها وحبها للغناء، إلى أن شاركت في سنوات مراهقتها الأخيرة في مسابقة للغناء بعنوان "أضواء المدنية" بإشراف المنتج المغربي حميد العلوي، لتفوز بالمركز الأول.
من المغرب إذاً بدأت رجاء بلمليح مسيرتها الفنية، مع شعراء وملحنين محليين، فقدّمت أغانيها الأولى، مثل "مشغولة" من كلمات فتح الله المغاري وألحان عبد القادر الراشدي. وفي عام 1987 قدمت ألبومها الأول "يا جار وادينا"، الذي ضمّ مجموعة من الأغاني أبرزها "الحرية" و"مدينة العاشقين". هكذا اختارت في سنواتها الأولى، الأغنية المغربية حصراً، فتعاونت مع الملحن عبد الله عصامي في "عد يا حبيبي"، ثم مع المفضل العذراوي أغنية "كان قلبي في الهوى طوع يدي" وهي أغنية سنباطية اللحن (نسبة لرياض السنباطي) و كلثومية الأداء من بلمليح. كما قدّمت أغاني وطنية وعروضا مسرحية تستعيد تاريخ المغرب.
الخليج
بعد الانطلاقة الأولى داخل المغرب، كانت بلمليح على موعد مع محطة ثانية في مسيرتها، لتتجه في النصف الثاني من الثمانينيات إلى الخليج وتحديداً الإمارات بداية. هناك قدّمت ألبومها الأول غير المغربي، الذي حمل عنوان "رجاء بلمليح 85". كتب كلمات أغاني الألبوم الشاعر الإماراتي مانع بن سعيد العتيبة ولحنها شهاب أحمد، فجاء خليجياً كاملاً لناحية الكلام واللحن والتوزيع. وفي العام التالي عادت لتقدّم ألبوماً شبيهاً.
من الإمارات انتقلت إلى السعودية لتخوض واحداً من أبرز التعاونات في مسيرتها مع الفنان السعودي طلال مداح في أغنية "هكذا الدنيا تسامح" في ألبوم حمل الاسم نفسه عام 1988، ولحن لها أيضا أغنية "عيني يا سهرانة"، وقدم الملحن السعودي جميل محمود ثلاث أغاني في الألبوم، وكانت أشهر تلك الأغاني أغنية "يا أمل عطشان". تلك التعاونات مع كبار الملحنين السعوديين فتحت لها الانتشار والنجاح في الخليج بشكل أكبر بعد تجربتها الناجحة في الإمارات.
عرفت الفنانة المغربية كيف تخلق لنفسها حيثية على الساحة الغنائية الخليجية، فغنت كذلك "إن هويتونا هويناكم" من كلمات الشيخ زايد بن سلطان، وصوّرتها في دولة الكويت. وبعدها عادت لتحصل على الجنسية الإماراتية. كذلك تعاونت في نهاية الثمانينيات مع المطرب والملحن البحريني خالد الشيخ في تقديم قصيدة "زنابق لمزهرية فيروز" من كلمات الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم. في هذه الأغنية تحديداً، برز جمال صوت بلمليح وقوته إمكانانه، التي صرّحت عام 1998 قائلةً: "أنا مغربيه المولد... فلسطينية الهوى!".
مصر
رغم نجاحها في المغرب وفي دول الخليج بقيت رجاء بلمليح غير معروفة للجمهور المصري، لذلك عندما تعاونت مع حميد الشاعري في منتصف التسعينيات،عرفت نقلة كبيرة لناحية اتساع رقعة جمهورها بشكل كبير. لكن تجربتها مع "الكابو" لم تكن أول تجبة مصرية لها. بل قدّمت نهاية الثمانينيات ألبوم "خايفة عليك" بالتعاون مع الشاعر عبد الوهاب محمد والملحن جمال سلامة، وكانت تحاول في تلك المرحلة تقديم أجواء شبيهة بتلك التي قدمتها لطيفة (التونسية) وسميرة سعيد (المغربية). تضمّن الألبوم أغنية "حياتك"، وهي أغنية سريعة من ألحان حسن نشأت، وقدمت موشح "عد بي إليك". لكن ألبومها لم ينجح، ولم تعرف الشهرة في مصر إلا غداة تعاونها مع الشاعري.
لكن بين ألبومها المصري الأول، وبين تعاونها مع الشاعري، مرت 5 سنوات، اختفت فيها بلمليح عن الساحة الغنائية وتفرغت لتحضير ماجستير في الأدب العربي.
التقى حميد الشاعري بالفنانة المغربية في مهرجان الأغنية القومية في العراق بعد حرب الخليج الأولى في نهاية الثمانينيات، لكن تأخر التعاون بينهما حتى عام 1994 بأغنية هي الأشهر في مسيرتها الفنية في مصر، أي "صبري عليك طال". نجح صاحب "عودة" بتقديم الفنانة المغربية بشكل جديد ومختلف عن كل ما سبق، لكن من دون أين يعتمد على طريقته الأشهر في التوزيع واستخدام إيقاع المقسوم.
جاء ألبوم بلمليح ــ الشاعري متنوعاً بالتعاون مع ملحنين من أغلب العالم العربي، فقدمت أغنية "سيف" من ألحان الملحن اللبناني مارسيل خليفة، وأغنية "لعل المانع خير" مع الملحن الليبي أبراهيم فهمي، وأغنية "لا تكتمي" من ألحان الملحن السعودي ناصر الصالح، وأغاني بالتعاون مع ملحنين من موطنها المغرب مثل أغنية "سيدي" من ألحان حسن القدميري، ومن أغانيها القديمة "ياجارة وادينا".
بعد نجاح الأغاني المصرية خصوصاً تجربتها مع الشاعري، كان يجب عليها إعادة التجربة مرة أخرى، وتقديم ألبوم "يا غايب" (1995)، وهي الأغنية التي لحنها ووزعها الشاعري، وتعاونت في الألبوم مع ملحنين مصريين منهم صلاح الشرنوبي، وشاكر الموجي، والملحن السوري محمد ضياء الدين. كانت كل تلك الألبومات من إنتاج شركة النظائر السعودية، وهو ما جعل انتشارها في مصر محدوداً باستثناء الأغاني التي صوّرت على طريقة الفيديو كليب.
ثم كعادة بلمليح في الاختفاء قليلاً، انسحبت من الساحة بعد ألبومها المصري الأخير وعادت بعد ثلاث سنوات لتقديم ألبوم "اعتراف"، وكان أهم ما يميز ذلك الألبوم هو تعاونها الأول مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من خلال أغنيتين "يا ليل" ألحان سامي الحفناوي، وأغنية "في يوم" والتي وزعها الشاعريعلى لحن تراثي. في الألبوم نفسه اختارت التعاون مع ملحنين وشعراء آخرين من مختلف أنحاء العالم العربي، لتحقيق حلمها بتقديم أغنية عابرة للدول، أغنية عربية حقيقية. لكن ذلك أضعف انتشار أعمالها، نتيجة تضعضع الهوية الواضحة لما تقدّمه.