رامزي لويس... الجمهور يسترد موسيقى الجاز

18 سبتمبر 2022
رحل أخيراً عن 87 عاماً (آل شابِن / Getty)
+ الخط -

لمّا كان مديراً لسلسلة حفلات الجاز التي نظمها مهرجان رافينيا الموسيقي لولاية إلينوي غرب وسط الولايات المتحدة (Ravinia Festival)، كُلِّف عازف البيانو والمؤلف الأميركي، رامزي لويس (1935 - 2022)، الذي رحل يوم 13 سبتمبر/أيلول الحالي، بكتابة عمل أوركسترالي ضخم، احتفالاً بمرور 200 عام على مولد الزعيم التاريخي لبلاده، الرئيس أبراهام لينكولن. عُهد بتقديم العمل إلى أوركسترا مدينة شيكاغو السمفونية، سنة 2009.

كانت وطأة المهمة على لويس شديدة، نظراً إلى ضخامة المؤلَّف وحجم المسؤولية. إلّا أنّ المخاض الإبداعي، الذي كابده بسبب تلك المهمة، منَّ عليه بإشراقة، جعلته يُعيد النظر من خلالها، في جوهر وماهيّة التأليف الموسيقي. فقد روى لوكالة أسوشييتد برس الإعلامية، كيف أنّ طاقة الكتابة لم تفِض منه، إلا حين رمى كل ما تعلّمه عن أصول التأليف والتلحين، ثم تجاهل جميع الأساطين والأعلام، كـ تشايكوفسكي وغيره، ليجلس أمام آلته البيانو، ويشرع بالارتجال. عندها، كان "قادراً على تأليف الموسيقى عن طريق الروح، ليس عن طريق العقل".

المؤلَّف الموسيقي، ما هو في جوهره سوى ارتجال، جُمّد في الزمان، وشكّله العمران، يعود فيسيل عند لحظة أدائه. حقيقةٌ، لم يملك ببساطة أن يعيها عازف الجاز المخضرم؛ فلئن كان حاملاً أميناً لإرثٍ موسيقي قائم بالأساس على وظيفة الارتجال، إلّا أنّ تربيته الفنية الصلبة ضمن بيئة الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، ذات التقاليد الصارمة والمحافظة، وخلفيته الأكاديمية، سواء بحكم تعليمه العالي الرفيع، أو عمله مدرّساً لنظريات الجاز في جامعة روزفلت في شيكاغو، جعلتا من رامزي لويس حالة معهودة في المشهد الثقافي للولايات المتحدة؛ لجهة أنه موسيقي أميركي أسود البشرة، جاهَدَ، وأهله من ورائه، في تحصيل أقصى درجات التأصّل في ثقافة السيد السائد والتمكّن منها، بغية التفوّق على أقرانه من بيض البشرة، إلى درجة جعلت من مقاربته المدرسيّة للموسيقى تحجب عنه زمناً طويلاً، عوامل الحسّ والفطرة فيها.

من جهة أخرى، ظل الوجه المدرسيّ لرامزي لويس مستتراً خلف وجهٍ آخر، قد يبدو للوهلة الأولى مناقضاً، تجلّى في إعادته موسيقى الجاز إلى حضن الجماهير. فبعدما سُمع ذلك الجنس الفنّي الهجين أوّل القرن الماضي صوتاً للملاهي والحانات، زمان العشرينيّات، طرأ عليه أوّل الستينيّات تحوّل ثقافي، على يد نخبة من الموسيقيين الأفروأميركيين الأفذاذ، رأوا فيه مشروعاً لموسيقى آلية حداثية، ذات هويّة ثقافية أميركية صرفة، ومجالاً للبحث والتجريب، في تركيب الانسجامات والإيقاعات، واختبار سبل أدائها على الآلات المختلفة.

"لطالما اعتقدت أنه من المخزي أن توقّف الجاز عن كونه الموسيقى التي ترقص لها الأبدان". ذلك ما قاله لويس ذات مرة. وانطلاقاً من تلك الرؤية، من أغنية In Crowd الجماهيرية الضاربة أول الستينيات (تأليف بيلي بيج Billy Page وأداء دوبي غري Dobie Gray)، وبمصاحبة فريقه الثلاثي، المكّون من قارع الطبول إيزاك هولت Issac Holt وعازف الكونتراباص إيلدي يونغ (Eldee Young)، اضطلع عازف البيانو المتأصّل على المهارة والمعرفة بتجربة تحويل الأغاني الراقصة المتداولة بين الناس، إلى مادة موسيقية نفوذة ومألوفة مُعدّة للارتجال ضمن إطار موسيقى الجاز الآلية، تتمايل لأنغامها الخواصر، وعلى وقعها تدبك الكعوب.

كُلِّلت تجربة جَمهرة الجاز، أو إعادة جمهرته، بنجاحٍ لافت. فقد سُجِّلت In Crowd بنسختها الحية، إذ يعزف ثلاثي لويس في نادٍ للرقص في العاصمة واشنطن، ثم جرى إنتاجها وإصدارها كألبوم ذي أغنية وحيدة. صعد الإصدار إلى واحدٍ من بين الخمسة الأكثر استماعاً في الولايات المتحدة. كما بيع منه عددٌ من الأسطوانات فاق المليون.

في الخلفية لجلسة الأداء الحيّ، تُسمع أصوات الشبيبة تهتف وتُصفّر وتصفّق، وهي ترقص على أنغام وإيقاعات ثلاثي لويس، بشكلٍ لم تعهده تسجيلات الـ Bop، الذي ميّز ذلك العقد، وفيه غالباً ما اكتفى المستمعون بتصفيق مقتضب إثر كل ارتجال انفرادي أداه أحد العازفين. حتى أن نسخة لويس في حميّتها وحماستها، نجحت بالتفوق على رزانة دوبي غري واتّزانه.

وجه ثالث لـ رامزي لويس، تجلّى فيه الموسيقي كإعلامي. فبعدما ذاع صيته بين الناس، وتأسس اسماً علماً في الساحة الموسيقية، أخذ يستثمر شهرته في سبيل نشر الموسيقى التي أحبها ومارسها عقوداً طويلة، وإيصال نجومها إلى الناس. بداية التسعينيات أطلق برنامجاً إذاعياً أسبوعياً بعنوان "أساطير الجاز مع رامزي لويس" (Legends of Jazz with Ramsey Lewis).

عبره، استضاف الأسماء الكبيرة، عرّف عنها، حاورها كما وقدّم موسيقاها إلى الشعب. ثم في عام 2006، انتقل ببرنامجه من الأثير إلى الشاشة. يعرض من خلاله جلسات مصورة للعزف الحي. أيّ أنّ رامزي لويس، لم يدّخر جهداً في وصل العامة بموسيقى الجاز، ولم يترك مسلكاً إلى ذلك إلّا وسلكه.

أما هذا الجنس الفني، ومحبّوه، فقد كافأوه بدورهم. فتمتع في حياته بأن يكون من بين أكثر موسيقيي زمانه نجاحاً وإحرازاً للشهرة. هو الذي فاز بأكثر من جائزة غرامي، واحدة عن أفضل أداء R&B، وواحدة عن أفضل أداءٍ آلي، وأخرى عن ألبومه الفريد ذي الأغنية الوحيدة In Crowd.

ربما من حيث لا يدري، قدم لويس مرويّة شاملة عن الجاز، تقضي بأنه الأصل لجميع الفروع الموسيقية التي أنتجتها الولايات المتحدة خلال القرن العشرين. قد عبّر عنها من خلال انفتاحه على الماضي الترفيهي للجاز، مواكبته للحداثة النخبوية التي ميّزته زمان الستينيات، ثم استغلاله الفروع الأكثر شيوعاً كـ روك آند رول وآر أند بي، بغية تشكيل ذخائر لحنية، ترمي بالجلسات الارتجالية إلى أحضان الجماهير. بالنتيجة، يُمنح الجاز صفة البوق الثقافي الجامع للشعب الأميركي.

المساهمون