"رابسودي إن بلو"... 100 عام تحطّ في برلين

11 سبتمبر 2024
جورج غيرشوين في بورتريه ذاتي (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 1924، كلف بول وايتمان جورج غيرشوين بكتابة "رابسودي إن بلو" للاحتفال بذكرى ميلاد الرئيس أبراهام لينكولن، ممزوجة بين البنية الكلاسيكية الأوروبية وموسيقى الأفارقة الأميركيين.
- احتفلت الفرقة السيمفونية لمدينة كنساس بمرور 100 عام على أول أداء للمقطوعة في مهرجان برلين، مع أداء متميز من عازف البيانو كونراد تاو وأعمال كلاسيكية أميركية أخرى.
- أثارت "رابسودي إن بلو" جدلاً حول استلابها الثقافي، لكنها تظل عملاً فنياً متميزاً واستخدمت كأداة بروباغاندا ثقافية أميركية.

لما كَلّف قائد الأوركسترا بول وايتمان Paul Whiteman سنة 1924 المؤلّف جورج غيرشوين George Gershwin (1898 - 1937) أن يكتب مقطوعة موسيقية حواريّة، تحمل في طيّاتها طابع موسيقى الجاز، بين آلة بيانو وفرقة موسيقية بطاقم أوركسترالي، كان في باله أن تُقدّم احتفالاً بذكرى ميلاد الرئيس الأميركي الأشهر أبراهام لينكولن (1809 - 1865) على مسرح في ناطحة سحاب وسط مدينة نيويورك الأميركية. بعدد تردّد، لبّى غيرشوين التكليف بأن كتب "رابسودي إن بلو" (Rhapsody in Blue).

كان أبراهام لينكولن قد لعب دوراً بارزاً في ما يُسمّى اتفّاق "إلغاء العبوديّة" بموجب إقرار المادة الثالثة عشرة من الدستور الأميركي سنة 1865. وعليه، هناك رمزية بيِّنة في ما يخص وايتمان وغيرشوين، حينما تُحيي أوركسترا أميركية، ذكرى مولدِ لينكولن بعزفِ موسيقى ذي بنية وبصمة كلاسيكية أوروبية، وفي الوقت نفسه مستوحاة في مُجملها من موسيقى الأفارقة الأميركيين.

إثر استضافتها هذا العام من قبل مهرجان برلين للموسيقى الكلاسيكية "موزيك فِست" (Muskifest)، اختارت الفرقة السيمفونية لمدينة كنساس في ولاية ميسوري الأميركية، تحت إدارة قائدها الألماني ماتياس بلينتشر، أن تحتفل في 28 أغسطس/آب الماضي، وعلى مسرح القاعة الفيلهارمونية في برلين، بمرور 100 عام على أوّل أداءٍ لمقطوعة غيرشوين الشهيرة.

عزف دور البيانو الصيني الأميركي المقيم بمدينة نيويورك كونراد تاو Conrad Tao. اتسم الأداء، سواء للفرقة أو العازف المنفرد، على مستو عالٍ من الدربة والتمرّس. بجانب الرابسودي، ضم برنامج الحفل، الذي صُمّم ليكون أميركياً خالصاً، مجموعة أعمالٍ مكتوبة لفرقة أوركسترالية من تأليف عَلمين بارزين، يعدّان من بين المؤلفين الكلاسيكيين الأكثر تأثيراً في تاريخ الموسيقى الأميركية، هما تشارلز آيفز Charles Ives (1954 - 1874) وآرون كوبلاند Aaron Copland (1900-1990). لعل ذلك قد أتى نتيجةً طبيعية لكثرة الدربة والتكرار على مدار العام، ناهيك عن معظم المواسم الفنية من كل عام.

في مقالة بعنوان "رابسودي إن بلو: التحفة الأسوأ" نشرتها صحيفة ذا نيويورك تايمز شهرَ يناير/كانون الثاني الفائت، وصف عازف البيانو والمؤلف والناقد الأميركي إيثان إيفرسون المقطوعة بأنها من بين الأطباق الموسيقية الأكثر تقديماً على موائد الحفلات في الولايات المتحدة، كما انتقد خروجها عن خصوصيّات البيئة الموسيقية الطبيعية للجاز، وعليه، تعليب المكوّنات "الجازيّة" داخل منتج موسيقي مخصص لأجواء الموسيقى الكلاسيكية ومرافقها. 

في المقابل، جرى وما زال، توظيفها من قبل المؤسسات الثقافية في البلاد وخارجها بوصفها بروباغاندا ثقافية أميركية، إذ أُدرجت ضمن الفعاليات الاحتفالية ببدء دورة الألعاب الأولمبية حين استضافتها مدينة لوس أنجليس سنة 1984 وسط الأجواء المتلبدة بسحب الحرب الباردة. حينئذ، استقدمت الإدارة المُنظّمة 84 عازف بيانو محترفاً، ليعزف كل منهم جزءاً منها، وذلك ضمن لوحة فنية موسيقية راقصة، صُمّمت خصّيصاً للمناسبة.

توظّف المؤسسات الثقافية الأميركية المقطوعة بوصفها بروباغاندا

من الناحية الشكلية، لم تأت "رابسودي إن بلو" بأيّ تغييرات نوعية في قالب الحواريّة بين آلة مُنفردة وفرقة أوركسترالية، والمعروف بالمصطلح الإيطالي Concerto كما تبلور في الحقبة الرومانسية على أعتاب القرن العشرين، إذ يبقى جُلّ الجديد غير مألوف هو تلك الثيمات المستوردة من موسيقى الجاز والبلوز. 

أما من ناحية المضمون، فلا تحمل المقطوعة في طيّاتها أيّة حمولة فكرية عميقة أو شحنة عاطفية مؤثّرة، بل هي مجرد منصّة جذّابة مُحكمة التصميم، الهدف منها هو الترفيه موسيقياً من خلال استعراض بهلوانياتٍ أدائيّة، تبهر المستمع وتبرز كفاءة العازف/المؤلف، على اعتبار أن غيرشوين نفسه، كان من أدّاها بمصاحبة وايتمان وفرقته، حين عُرضت على الجمهور لأوّل مرة. 

إذا ما استُمع إليها في إطار الحساسيات التي باتت تستأثر اليوم بخطاب الهويّاتية السياسيّة، كما يتبنّاه منظّرو اليسار التقدمي الجديد وناشطوه، يمكن أن تُعدّ نموذجاً مبكّراً للاستلاب الثقافي Cultural Appropriation، إذ إنّ مؤلفاً أميركيّاً أبيض قد كُلِّفَ من قبل قائد فرقة أميركيّ أبيض بكتابة مقطوعة، تحمل طابع الموسيقى الخاصة بالأميركيين السود. 

لا تحمل المقطوعة في طيّاتها أيّة حمولة فكرية عميقة أو شحنة عاطفية مؤثّرة

ذلك ما أقرّت به مقالةٌ أخرى نشرتها ذا نيويورك تايمز شهر فبراير/شباط، بقلم عالم اللسانيات المختص بالعلاقات العرقية من جامعة كولومبيا، جون ماكهوتر، عنونتها "لا، ليست الأسوأ"، أتت بمثابة ردٍّ على المآخذ التي وردت في مقالة إيفرسون، إلا أنها خلَصت إلى أن الرابسودي تبقى عملاً فنياً أخّاذاً، يتميّز بحسن الصنعة، وحسن النيّة أيضاً، إن وُضِعت في سياقٍ تاريخيٍّ سابقٍ لحركة السود في سبيل نيل حقوقهم المدنية (1954 - 1968) حين كانوا لا يزالون يعانون كلّ مظاهر التمييز على جميع المستويات.

لعل تلك الحساسيات بالذات، وحميّة السجال الهويّاتي المستمر والمستعر في أميركا وسائر العالم الغربي، ما حدا بأوركسترا مدينة كنساس عقب انتهاء "رابسودي إن بلو" أن تُقدّم برفقة عازف البيانو كونراد تاو، معزوفة إضافية "إنكور" Encore عربونَ شكرٍ لجمهور فيلهارموني برلين، لقاء تصفيقه طويلاً، وأن تختار لذلك مقطوعةً اقترنت بنجم شهير وعازف بيانو جاز أفريقي أميركي هذه المرة، هو كاونت بيسي (1904 - 1984) Count Basie بعنوان، "حلوتي الصغيرة" Li'l Darlin. 

المقطوعة التي لم تتجاوز مدة الأربع دقائق، هي في الأصل أغنية من تأليف وتوزيع أميركي أبيض هو نيل هيفتي Neal Hefti (2008 - 1922) بتكليف من بيسي لكي يرافق بآلته البيانو، وبمصاحبة فرقته، صوت مُغنّ أبيض هو Mel Torme وذلك في أحد عروض جودي غارلند التلفزيونية المشهورة سنة 1959. على الرغم من كل هذا "البياض"، تميّزت المقطوعة بأكثر سمات الجاز أصالة، من ألحان شاعرية ساحرة، وخفّة وانسيابية في تصميمها الآلي ورشاقة وثباتها الهارمونية والإيقاعية، ناهيك عن سمة الجاز الأساس، ألا وهي الارتجال.

المساهمون