"رائحة الأبدية"... نفحات من الماضي المصري السحيق

11 نوفمبر 2023
تقدم الطقوس فهماً جديداً لممارسات التحنيط المتطورة عند قدامى المصريين (تِم غراهام/ Getty)
+ الخط -

سينيتناي هي سيدة مصرية عاشت في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، وعثر على قبرها قبل أكثر من مئة عام في مدينة الأقصر جنوب مصر. كان قبر سينيتناي من بين العشرات من القبور الأخرى التي اكتشفت مخبأة في باطن الجبل المشرف على المدينة، في المنطقة المعروفة اليوم بوادي الملوك.

ضمت مقابر وادي الملوك مومياوات النخبة من الملوك والنبلاء الذين حكموا مصر على مدى قرون عديدة.

لم تكن سينيتناي من هؤلاء النبيلات المنتميات إلى الأسر الحاكمة، لكنها تمتعت بمكانة مرموقة، كونها كانت مرضعة الفرعون أمنحتب الثاني من الأسرة الثامنة عشرة. حين عثر على مقبرة هذه السيدة، كانت إلى جانبها أربع جرار لحفظ أعضائها، فقد كان المصريون القدماء يفرغون الجسد من محتوياته الرخوة قبل تحنيطه، ويحتفظون بهذه المحتويات في جرار توضع إلى جانب المتوفى.

كانت عملية التحنيط تهدف إلى الحفاظ على الجسد حتى الانتقال إلى الحياة الأخرى، كما يعتقد عديد من علماء المصريات، إذ آمن المصريون القدماء بأن الروح لا يمكن أن تعود إلى الجسد إلا إذا كان سليماً.

اثنتان من هذه الجرار هُرّبتا خارج مصر، لتستقرّا في متحف أوغست كيستنر في هانوفر الألمانية، وقد خضعتا أخيراً لعملية دقيقة من البحث والتحليل الكيميائي. كان الهدف من البحث هو استخراج مكونات المواد العطرية التي استخدمت في تحنيط هذه الأعضاء.

وقد نجح الباحثون أخيراً في الخروج بنتائج باهرة عن تكوين هذه المادة. عبر التحليل الكيميائي، اكتشف الباحثون مزيجاً معقداً من المكونات التي استخدمها المصريون القدماء لصنع هذه المادة العطرية، والتي كان من المثير أن أغلب هذه المواد جرى استخراجها من أشجار ونباتات لم تكن مستوطنة في مصر القديمة.

وتؤكد باربرا هوبر، الباحثة في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا في ألمانيا، والمشرفة على البحث، أن هذه المكونات جُلبت على الأرجح عن طريق التجارة.

استقر الباحثون، منذ سنوات طويلة، على أن هذه المادة العطرية المستخدمة في التحنيط عند المصريين القدماء تتضمن عدداً من العناصر، مثل شمع العسل والزيوت النباتية والدهون الحيوانية. غير أن الباحثين الألمان استطاعوا تحديد عدد من المكونات الأخرى التي لم تكن معروفة من قبل.

بين هذه المكونات المكتشفة، خلاصة نبات القرفة التي تشبه رائحة الفانيليا، إضافة إلى نوع نادر من الصمغ، يستخرج من خشب أشجار الفستق، ونوع من الراتنجات المصنوع من عصارة أشجار الصنوبر.

يؤكد الباحثون أن أشجار الصنوبر لم تكن تزرع في مصر القديمة، لكنها كانت وفيرة في شمال ووسط أوروبا، كما كانت أشجار الفستق متوفرة على نحو خاص في جنوب شرق آسيا.

ويبدو أن المصريين القدماء قد توصلوا، بطريقة ما، إلى خصائص هذه المكونات وأدركوا أهميتها في الحفاظ على الجسد من التحلل. يحتوي الصنوبر على مكونات مضادة للبكتريا والميكروبات، كما أن رائحة القرفة نفاذة وطاردة للحشرات والطفيليات.

بعد التوصل إلى طبيعة هذه المكونات التي احتوت عليها المادة العطرية، كان من السهل على الباحثين تصنيعها من جديد، وهو ما حصل بالفعل من خلال التعاون مع صانعة العطور الفرنسية كارول كالفيز.

يرى كريستيان لويبين، عالم المصريات وأمين متحف أوغست كيستنر، أن هذه المكونات المعقدة والمتنوعة، الفريدة من نوعها في هذه الفترة الزمنية المبكرة، تقدم فهماً جديداً لممارسات التحنيط المتطورة التي اتبعها المصريون القدماء.

ويؤكد نيكول بويفين، كبير الباحثين في المشروع، أن المكونات الموجودة في المادة العطرية توضح أن المصريين القدماء استطاعوا مد جسور التجارة مع أماكن ومجتمعات نائية منذ وقت مبكر، وهو ما يخالف التصورات السابقة. تشكل هذه الرائحة التي حُصل عليها أخيراً محوراً للمعرض المقام حالياً في متحف موسغارد (Moesgaard) في الدنمارك تحت عنوان "مصر القديمة مهووسة بالحياة".

يستمر المعرض حتى منتصف أغسطس/آب من العام المقبل، ويركز على فكرة الموت عند المصريين القدماء وتصوراتهم عن الحياة الآخرة والطقوس المرتبطة بعملية الدفن.

إلى جانب المعروضات الأثرية من مقتنيات المتحف، يوفر المعرض للزوار تجربة حسية فريدة من نوعها، باستنشاق نفحة من الماضي السحيق. يتيح العرض للزوار الاستمتاع بهذه الرائحة، التي كانت تعبق في أماكن التحنيط في مصر القديمة، والتي أطلق عليها الباحثون اسم "رائحة الأبدية".

المساهمون