"ذا كراون"... فنّ ألّا تفعل شيئاً

09 ديسمبر 2020
انتقد الإعلام كثيراً الملكة إليزابيث بسبب عدم ظهور تعاطفها حيال مواقف عدة (نتفليكس)
+ الخط -

في الأزمات، وبينما يتخبط أعضاء الحكومة في ما بينهم، على الملكة، صاحبة السيادة، التزام الصمت. "كلما قلّ فعلك وقولك، وقلّت مواقفك وابتساماتك، كان ذلك أفضل". بهذه النصيحة التي جاءت على لسان الملكة ماري تك لحفيدتها الملكة إليزابيث الثانية، يختتم بيتر مورغان، نص الحلقة الرابعة من الموسم الأول لمسلسل "ذا كراون" الذي أطلقت منصة "نتفليكس" الجزء الرابع منه أخيراً.

تلّخص هذه النصيحة الدور الذي أدّته الملكة الحديثة العشرينية آنذاك، من خلال عدم إقدامها على أي فعل، أو إبداء أي موقف، بينما كانت تحلّ على لندن كارثة تحصد آلاف الأرواح، هي كارثة الضباب الدخاني الكبير عام 1952.

الملكة لم تفعل شيئاً حيال فشل حكومة وينستون تشرشل في التعامل السريع مع كارثة الضباب الدخاني الكبير الذي استمر خمسة أيام، لاقى فيها أربعة آلاف شخص حتفهم. تبين لاحقاً أن العدد الحقيقي للضحايا الذين قضوا بسبب الضباب الدخاني في الأشهر التالية ربما يتجاوز الـ12 ألفاً. اعتبر تشرشل الحادثة في حينها مجرّد "سوء في أحوال الطقس"، ليس بيد أحد سوى الله فعل شيء حياله.

في هذه الحلقة، كما في معظم حلقات المسلسل، نتعرف إلى الدور القوي الذي تلعبه الصحافة الإنكليزية في التأثير على شعبية الشخصيات السياسية البارزة، ولا سيما تشرشل الذي تمكن بمساعدة الصحافة، وببراعته في فن الخطابة، من الظهور بمظهر البطل.

أمّا الملكة، فعملها البطولي -بحسب ما يتكشف لنا من خلال المسلسل- يكمن في التزامها الحياد، والامتناع عن إبداء المواقف والآراء.

يؤسس مورغان لأهمية هذا الدور وتعقيداته منذ الحلقات الأولى، وهو يفعل ذلك من خلال توظيف شخصية ماري تك كناصحة لحفيدتها إليزابيث الثانية. يذكرنا أن هذه الجدة المحافظة شهدت كما تقول "سقوط ثلاثة أنظمة ملكية بسبب فشل الملوك"، فلا شك أن دورها أساسي في التأثير بشخصية الملكة الجديدة التي ستصبح لاحقًا "صخرة القوة" - كما سماها ديفيد كاميرون - الثابتة رغم كل التحولات والتغييرات من حولها.

قدّمت الجدة قبل وفاتها عدة نصائح لحفيدتها تلخص مسؤوليات الأخيرة في الحفاظ على ثبات وقداسة النظام الملكي، من خلال الالتزام بالتقاليد ووضع العاطفة جانباً. كل ما تفعله إليزابيث الثانية سيدور حول صون الملكية ورمزيتها أمام العامة، لتذكرهم، ولا سيما في أوقاتهم الصعبة، بمفاخر بلادهم وتاريخها.

في المسلسل، نجد الملكة تبرع في التزام الحياد وقت الأزمات الوطنية والعائلية على حد سواء، وكما أن نظامها ثابت مقابل تغيّر رؤساء الحكومة، فإن زواجها أيضاً ثابت رغم التحولات والتغيرات في زيجات بعض أفراد العائلة.

يبين لنا "ذا كروان" أن الملكة قادرة على ضبط عاطفتها إلى حد التغاضي عن أخبار تشير إلى أن زوجها فيليب قد يخونها مع نساء أخريات، وبغض النظر عما إذا كان ذلك حقيقة أم لا، إلا أن تمرير المسلسل لهذا الحدث مهم، خصوصاً أن موضوع الخيانة الزوجية سيتكرر في المستقبل داخل العائلة.

بهذا، كان من الذكاء أن يضع النص الشخصية الرئيسية في موقف مشابه، ليساعد في فهم مواقفها من العلاقات الزوجية الأخرى داخل العائلة. نجد أن موقفها تجاه الأزمات العائلية لا يختلف عن موقفها خلال الأزمات الوطنية. في محادثة مع زوج أختها مارغريت تعترف أن التغاضي هو الطريقة التي تفضلها هي في التعامل مع المشاكل الزوجية. تقول: "تُحل الأمور من تلقاء نفسها في النهاية".

سلبية الشخصية الرئيسية في المسلسل وقلّة أفعالها لا يعنيان الشعور بالملل أثناء مشاهدة المسلسل، ذلك بفضل براعة النص في صوغ حوارات متخيلة للملكة مع شخصيات سياسية وعائلية.

إلى جانب النص، هناك الدور الاستثنائي لأوليفيا كولمان في تجسيد شخصية الملكة، قليلة العاطفة تجاه العامة وتجاه أطفالها. يتبين لنا أنّ شخصية إليزابيث الثانية ملائمة تماماً لأداء الدور السلبي المطلوب منها، بفضل قلّة انفعالها العاطفي تجاه الأحداث الدرامية من حولها.

تبرز شخصية الملكة الباردة، الإنكليزية، قليلة الانفعال، في أكثر من موقف، لعل أبرزها في المسلسل حتى الآن موقفها خلال كارثة أبرفان التي راح ضحيتها أكثر من مئاة طفل وطفلة بعد انهيار منجم للفحم قرب مدرستهم.

تعرضت الملكة لانتقادات بعد أن جاءت زيارتها لموقع الكارثة وذوي الضحايا، متأخرة. في حوار متخيل مع رئيس وزرائها آنذاك، هارولد ويلسون الذي لعب دوره الممثل جيسون واتكينز، تعترف الملكة بأن كثيرا من الأحداث التي تؤلم الناس وتبكيهم لا تبكيها.

تنتهي الحلقة بمشهد طويل، نرى فيه الملكة تجلس لتستمع لترنيمة غناها ذوو الضحايا. نسمع الترنيمة الحزينة في لقطة طويلة، تقترب الكاميرا من الملكة ببطء، لا نرى وجهها، هل هي تبكي؟ أخيراً، دمعة واحدة متأخرة تسيل من عين الملكة، تعطينا إياها أوليفيا كولمان في الوقت المناسب تماماً.

أبرفان ليست الحادثة الوحيدة التي جاء فيها رد الملكة متأخراً على فاجعة هزّت بلادها. من المعروف أن الملكة لاقت سخطًا من الإعلام والعامة لتأخر عودتها إلى لندن بعد وصول خبر وفاة الفرد الذي ربما كان الأكثر شهرة وشعبية في عائلتها: الأميرة ديانا. رغم أنها لم تكن تعد من أفراد العائلة عند وفاتها، بسبب طلاقها من الأمير تشارلز، إلا أنه تم التعامل مع وفاتها كما لو أنها ما زالت أميرة.

ديانا التي تظهر في الموسم الرابع من المسلسل، على العكس من الملكة ومعظم أفراد عائلتها، أكثر تواصلاً مع الناس وأكثر احتياجاً وعطاءً للعاطفة تجاه عائلتها وأطفالها. ومثلما تفوقت في الواقع على أفراد العائلة في شعبيتها، تفوق الموسم الرابع من المسلسل في عدد المشاهدات مع ظهور شخصيتها فيه. تؤدي دورها الممثلة الإنكليزية إيما كورين.

نعيش اليوم أحداثاً حقيقية آنية حول الجلبة التي يثيرها المسلسل ذاته في الإعلام، ولا سيما حول حياة الأميرة ديانا، واكتئابها، وخيانة الأمير تشارلز لها مع كاميلا باركر باولز التي هي اليوم زوجته.

هوس الإعلام والناس بشخصية الأميرة ديانا وحياتها، ساهم بشكل كبير في تحول دور العائلة الملكية إلى مصدر لقصص الترفيه في بريطانيا وخارجها. تحول تدريجي ولافت يظهر لنا من خلال المسلسل أيضاً، فبالرغم من انضباط إليزابيث الثانية والتزامها نصائح جدتها، يغير الوقت من شكل الملكية ونظرة الناس إليها.

الجزء الرابع من المسلسل استفاد من شعبية الأميرة ديانا وأصبح هو بحد ذاته حدثاً بارزاً آخر في حياة العائلة الملكية. من المتوقع أن ترتفع شعبية المسلسل أكثر في المواسم القادمة لما ستمر عليه من أحداث قريبة من زماننا، مثل اعتراف الأمير تشارلز أمام الناس بخيانته لزوجته، وبث "بي بي سي" للمقابلة الشهيرة للأميرة ديانا مع مارتن بشير عام 1995.

المساهمون