ضمن فعاليات المتحف الفلسطيني في بلدة بيرزيت قرب مدينة رام الله، قدّمت مرح خليفة، مشرفة الأبحاث والبرامج في المتحف، حلقة خاصة تحت عنوان "ديمومة المؤقت"، تحت مظلة سلسلة "بودكاست خرائط اللامكان"، الساعي إلى استكشاف علاقات الفلسطينيين بالحدود والأرض والجغرافيا، وانعكاساتها على حياتهم اليوميّة الجمعيّة، وهويتهم الفردية أيضاً. وفي هذه الحلقة الخاصة التي أنتجها المتحف الفلسطيني ومؤسسة "صوت"، تشاركت خليفة عبر منصّات التواصل الاجتماعي للمتحف، وخاصة "ساوند كلاود"، مع جمهور المستمعين، في رحلة داخل بعض مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين، وكيف أن طابعها المعماري الذي من المفترض أن يكون مؤقتاً أخذ طابع الديمومة في أوقات وسياقات مختلفة.
في البداية، لجأ كثير من المُهجرّين من منازلهم عنوة عام 1948 إلى المباني المهجورة، والثكنات العسكرية القديمة، والمدارس والجوامع والكنائس، بينما لجأ آخرون إلى عائلات من أقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم، في حين لم يكن للبقية غير "الاحتماء" في المناطق الحدودية داخل "خيام" نصبت لهم من مؤسسات إنسانية وأهالي القرى والبلدات المحيطة، حتى اتخذت هيئة الأمم المتحدة القرار 194 الذي شدد على ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وأقرت تأسيس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بقرار حمل الرقم 302، وهي الجهة التي باتت مسؤولة بشكل رسمي عن إدارة شؤونهم.
وقسّمت خليفة، ومن رافقها من شباب المخيمات، "بودكاست" النكبة هذا إلى مشاهد، حمل أولها عنوان "الخيمة"، وفيه أشار أنس الخطيب الذي تعود جذوره إلى قرية "بيت عطّاب" المهجرة قضاء القدس، ويقطن في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين في مدينة بيت لحم، إلى أن اللاجئين سكنوا الخيام منذ التهجير وحتى عام 1951، حيث تم تطوير الخيام وتوسعتها، للحيلولة دون سكن أكثر من عائلة في خيمة واحدة، واستمرت هذه الحال حتى عام 1956.
وأشارت خليفة إلى أنه عام 1951 وصل عدد مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين إلى 71 مخيماً، بعدها انخفض إلى 57 عام 1955، ثم انخفض أكثر لاحقاً. وواصل الخطيب حديثه في المشهد الثاني تحت عنوان "الخرسانة"، قائلاً: "عام 1956 بدأت العائلات في مخيم الدهيشة تنتقل للوحدات السكنية الخرسانية، بحيث تتكوّن كل وحدة من أربعة جدران وسقف مائل بزاوية قطرها 15 سم لمنع تسرب مياه الأمطار، ومقاومة انتشار الرطوبة داخلها، وكانت سماكة جدار هذه الوحدة الخرسانية لا يتجاوز 12 سم، وسمك السقف لا يتجاوز 15 سم، وكان حجمها لا يتجاوز الثمانية أمتار مربعة، وكان يسكنها عشرة أشخاص في بعض الحالات".
وبطبيعة الحال، وكما أكدت خليفة، فقد كان لكل مخيّم خصوصيته، رغم وحدة الحال في ما يتعلق باللجوء كصيرورة جمعية، وهنا انتقل الحديث إلى نماء القضاة، الباحثة في مجال عمارة المخيّمات الفلسطينية في الأردن، والتي لفتت إلى أنه "استجابة لموجة اللجوء الكبير من فلسطين إلى الأردن، قامت الحكومة الأردنية بالتنسيق مع وكالة الغوث بتأسيس أربعة مخيّمات رسمية: مخيم إربد، ومخيم الزرقاء، ثم مخيم جبل الحسين وكان الأول في العاصمة عمّان عام 1952، ثم مخيم الوحدات عام 1955". وحسب القضاة، فإن ما يميّز مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في عمّان عن بقية المخيّمات الأخرى في الأردن، أنه منذ التأسيس أخذ شكل وحدات سكنية مبنيّة من الزينكو والطوب، وضم حينها عائلات كانت تتوزع في عمّان وغيرها من المدن، كاشفة عن أن اسمه الرسمي هو "مخيّم عمّان الجديد"، لكن "الوحدات" الاسم الشعبي له جاء لكونه تأسس على شكل وحدات سكنيّة في منطقة اليرموك، جنوب شرقي عمّان، حيث حضرت مدارس ومرافق "أونروا" في ذات المنطقة، في حين كان النشاط التجاري محصوراً في سوق الخضر هناك.
وبدأت المخيّمات تتخذ الشكل الذي هي عليه الآن منذ خمسينيات القرن الماضي، حين بدأت "أونروا" ببنائها، وتشجع اللاجئين على بناء غرف صغيرة من الطوب الطيني في الأردن، والحجر في الضفة الغربية، والحُصر في سورية، وفي هذه الغرف أو الوحدات السكنية تكدّست عائلات بأكملها. وكشفت القضاة أنه عام 1955، كانت كل عائلة تصل إلى مخيم الوحدات تمنح قطعة أرض مساحتها 100 متر مربع تقريباً، تبعاً لما عُرف بـ"حق الانتفاع"، وهي ذات ملكية مؤقتة، وليس ملكاً دائماً للاجئين، ولا يزال هذا الإطار هو السائد في منظومة علاقة اللاجئين بالوحدات السكنية التي يقطنونها، وفي الأرض الخاصة بكل عائلة، كانت الوكالة تقدّم غرفة مساحتها 28 متراً مربعاً لكل عائلة، وفي بعض الحالات، وخاصة إذا ما كان عدد أفراد العائلة كبيراً، كانت تُمنح وحدتين متجاورتين.
واستعادت خليفة ما قالته شخصية علي صالح الشيخ يونس في مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، لتشير إلى أنه، ومع الوقت، بدأ يتلاشى الطابع المؤقت للمخيّمات، وتتلاشى معه الحالة المؤقتة التي تعبّر عن أمل متجذّر بالعودة، وأنه "مهما طالت، يوم أو يومين، وراجعين"، مؤكدة أن المؤقت بات دائماً مع عدد تحقق العودة.
وعاد الحديث إلى أنس الخطيب القاطن في مخيم الدهيشة في بيت لحم، وهو مهندس معماري خرج بمبادرة توثيقية بحثية بعنوان "معمار في المخيم"، ويدرس من خلالها المخيم كبيئة اتسعت لتداخلات اقتصادية وسياسية وإنشائية وجغرافية، أنتجت مجمتعة أشكال بناء وفراغات، أي "عمارة"، إن جاز التعبير، كانت وليدة للحاجة والظروف، صُمّمت بلا معماري. وفي المشهد الثالث "التوسع أفقياً"، حكى الخطيب عن التوسع في المخيمات، وخاصة في سبيعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فهناك من هدموا منازلهم وبنوا منازل جديدة عوضاً عنها، وهناك من كانت الوكالة تبعاً للطلب ودراسة الحالة الديمغرافية للعائلات تقوم بتوسعة مساكنهم أفقياً، وباتت الجدران أكثر سماكة، والفراغات أوسع، وهناك من يقوم بتقوية الكتلة الأساسية وتوسعتها أفقياً، وهو ما لا يجد فيه اللاجئون أي تعارض مع حقّهم بالعودة، بل بحثاً عن حياة كريمة وبيئة صحيّة وسلامة داخل فراغ المخيّم.
وتبقى عمارة المخيم استثنائية باعتبارها لم تأت نتيجة تطوّر طبيعي، فعمارة المدينة نابعة من كونها مركزاً حضرياً، وعمارة الريف بدأت ذات طابع مرتبط بالزراعة، ثم تطورت تبعاً لتطور السياقات المعيشية هناك. وقال الخطيب إنه "لا يوجد ما يمكن أن يطلق عليه عمارة المخيّمات بالصورة الفيزيائية، أي تلك العمارة التي يشكلها الفضاء الزمني، ولكن هناك العديد من المناطق تلامس نمط البناء في المخيّمات أو عمارتها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه عمارة العشوائيّات، أو اللامتقن، أو عمارة المخيم فهي سكانها الذين شكلت ظروفهم المشتركة هذا الفراغ ليس فيزيائياً فحسب، بل ذهنياً ومعنوياً في نسيج مترابط تجمعه وحدة الحال". وعقّبت خليفة: "وهكذا ترسخ مصطلح اللاجئين في حيوات الفلسطينيين، وبعد حين قفزت هذه الكلمة إلى المعجم لتصبح هويّتنا التاريخية وإطارنا الاجتماعي تماماً مثل كلمات النكسة، والوطن السليب، والفردوس المفقود (...) فراغ المخيم أيضاً مساحة متغيّرة، تغذّيها الظروف السياسية والاجتماعية، فالمخيم بات مكاناً مشحوناً بالرمزية العالية، فهو حيّز يمهد للعودة، ومحطة انتظار".
كما أنه، كما أوضحت، مساحة كفاحية مفتوحة ضد العدو، رغم كل التغيرات السياسية والاجتماعية، بما فيها الثورة، واتفاقية أوسلو، وما عايشته من تقلّبات، ففلسطين الغائبة في الجغرافيا لا تزال حاضرة في المخيمّات بصريّاً عبر الجداريات وفي أسماء الحواري والأزقة.
وكان المتحف الفلسطيني، عرض في الخامس عشر من الشهر الحالي، فيلماً قصيراً في أقل من ثلاث دقائق مبنياً على صور من الأرشيفات الشخصية التي قدّمها أصحابها للمتحف، وتم من خلاله نسج قصّة حيكت ببراعة عبر الربط المتخيّل ما بين هذه الصور التي تؤكد على الحياة المدينية المتقدمة في فلسطين قبل النكبة، وتدحض رواية الصهيونية القائمة على "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".