ديكتاتورية واحدة في فيلمين مختلفين

01 فبراير 2021
رافا روسو و"عام الغضب" في "مهرجان فالاّدوليد الـ65" في إسبانيا، 2020 (خوان نارّو خيمينز/ G
+ الخط -

في الدورة الرابعة (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، عرض فيلمان من أميركا اللاتينية: The Year Of Fury (أورغواي) لرافا روسو، وMy Tender Matador (تشيلي) لرودريغو سَبُولفِدا. كلاهما يتناول الحكم العسكري في البلدين: الأول أثناء انقلاب 1973 في الأوروغواي، الذي أدّى إلى حكم خوان ماريا بوردابيرّي؛ والثاني عام 1986، أثناء حكم أوغستو بينوشيه. اللافت للانتباه أنّ الأنظمة الديكتاتورية واحدة، في كلّ زمان ومكان.

لكنّ المهم فيهما ـ بعيداً عن مفارقة عرضهما في برنامج واحد، في بلدٍ يعاني أزماتٍ يومية بشأن الحريات والتعامل مع المعارضين السياسيين ـ افتراق أحدهما عن الآخر في التناول السينمائي، وفي أنّ المقارنة بينهما توضح، رغم كون النوايا طيّبة وثورية، وجود فرقٍ بين فيلم سياسي "زاعق"، وآخر "فنّي".

الفيلم الزاعق بعنوان "عام الغضب (The Year Of Fury): قصص متقاطعة في الأوروغواي، أثناء فترة الانقلاب. مذيعان كوميديان يُقدّمان برنامجاً سياسياً، يعانيان من سيطرة الجيش، والضغط الشديد المُمارس عليهما بسبب المادة التي يقدمانها، واضطرارهما للرضوخ أحياناً، وتقديم نكاتٍ اجتماعية فارغة، للاستمرار في عملهما، مع أنّ هذا يُشعرهما بالإهانة. هناك خطّ قصصي آخر، عن العلاقة الملتبسة بين ملازم في الجيش، مسؤول عن تعذيب المعارضين السياسيين، بـ"عاملة جنس"، يرتبط بها عاطفياً بشكل تدريجي. ثم يظهر خطّ ثالث، عن شابٍ مُطارَد سياسياً، ما يشكل خطراً على حياته.

يتقاطع الفيلم مع قضايا حادّة، كالتعذيب والاختفاء القسري وكيفية تعامل الديكتاتوريات مع النقد الساخر. كما يحاول التقاط شكل الضغط اليومي للبشر، في ظلّ أنظمة عسكرية. المشكلة أنّ كلّ ذلك يحدث سطحياً تماماً، من دون أي تعمّق حقيقي بالنسبة إلى الشخصيات واللحظة. لا يخبر الفيلم أكثر مما يُمكن تصوّره عن تلك الأنظمة. يَغرق أحياناً في الكليشيه، خصوصاً في علاقة الملازم روخاس (دانيال غْراو) وحبيبته سوزانا (مارتينا غازمان)، بشكل يمنع تقدير الفيلم كاملاً، حتّى مع تصديق نواياه وبعض لحظاته.

 

 

من ناحية أخرى، يتّخذ My Tender Matador منظوراً مختلفاً تماماً، ويُقدِّم قصّة واحدة محدّدة لشخصية تمثّل الأقلية في شعبٍ مُضطهد ويُعاني، ما جعله أفضل وأصدق وأكثر تأثيراً. تدور أحداثه عام 1986، في ظلّ الحكم الكابوسي لبينوشيه في تشيلي. بطلته امرأة "كويرية" (عابرة جنسياً من جسد رجل، يؤدّي الدور ألفردو كاسترو)، تقضي حياتها في الليل، في الخفاء، بسبب الاضطهاد العنيف الذي تعانيه من الجميع، قبل أنْ تتقاطع حياتها مع كارلوس (ليوناردو أورتيزغْريس)، الشاب الثوري الذي يُدافع عنها ويحميها في لحظة خطرة، من دون أي ارتباك أو حكم عليها وعلى ميولها. ثم تُحبّه، ما يؤدّي بها إلى تقاطعٍ أكبر مع اللحظة السياسية الكبيرة التي تمرّ بها تشيلي، وحادثة محاولة اغتيال بينوشيه (سبتمبر/ أيلول).

الفيلم مُربك جداً لمشاهديه في مصر، لأنّه نابضٌ وحيّ، وذو موقف سياسي حاضر، وتجسيد مُخلص لشكل الشوارع والعيش في خطرٍ دائمٍ بسبب أنظمةٍ عسكرية حاكمة. لكنْ، في المقابل، بطلته "رجل عابر جنسياً"، يعاني الاضطهاد بسبب قراره بشأن ميوله. والاضطهاد هذا (هناك تعاطف معه بسببه) يُشبه اضطهاداً آخر عند مُشاهدين كثيرين في القاعة، ما يُخلِق تناقضاً بين "تعاطفك معها" و"احتمال ممارستك الاضطهاد نفسه عليها". تلك اللحظة مؤثّرة، تُبرز قوّة الفيلم والسينما، وسَبُولفِدا يُدرك ذلك بشكلٍ واعٍ، ويُكثّف العمل عليه طوال أحداث فيلمه.

استفاد الفيلم جداً من اقتباسه عن رواية كاتب كويري، هو بِدرو ليمبل، عاش لحظة بينوشيه بكلّ ما فيها من اضطهاد للمثليين والعابرين جنسياً، مُجسّداً إياها بدقّة في روايته، حاملة العنوان نفسه (2015). هذا الإخلاص لقصّة فردية على هامش ديكتاتورية عسكرية ميزة الفيلم، برقّة وكثافة، وبموقف سياسي ينحاز إلى الإنسان أولاً، تعبّر عنه تماماً جملة بطلته: "لا يهمّ إن كان الفاشيون أو الشيوعيون في السلطة، طالما سأعُتَبر دائماً حثالة". الفيلم يعرف الفرق بين هذا وذاك، بسينمائيّةٍ وشاعرية مُطلقتين.

المساهمون