دورة جديدة لـ"سينما الواقع" في باريس: حضور عربي بفيلمين لبنانيين

24 مارس 2023
من "قلب ضائع وأحلام أخرى من بيروت" لمايا عبد المالك (الملف الصحافي)
+ الخط -

تنطلق اليوم الجمعة، وحتى 2 إبريل/نيسان القادم، الدورة الـ45 لمهرجان سينما الواقع في باريس، التي تعرض بعض أبرز إنتاجات العالم من الفيلم الوثائقي وأحدثها. في المسابقة الرسمية وحدها، هناك 41 فيلماً طويلاً ومتوسطاً وقصيراً (بين 4 دقائق و634 دقيقة)، أكثر من نصفها "عرض عالمي أول"، اختيرت من 1686 فيلماً قُدِّمت إلى المهرجان.

أفلام من 20 جنسية، معظمها من دول أوروبية والأميركتين، مع فيلمٍ لكلّ من تركيا وتايلندا ونيجيريا، وفيلمين من لبنان، بينما تغيب الأفلام العربية على نحو شبه كامل عن المسابقة، وعن بقية أقسام المهرجان، باستثناء الفيلمين الللبنانيين المشاركين في مسابقة الأفلام المتوسطة والقصيرة.

لبنان بات، باشتغالات مميّزة لسينمائيين شباب، مصدراً مهمّاً للفيلم الوثائقي مقارنة بغيره من البلدان العربية. هذان الفيلمان عن بيروت: "الحديقة السرية" (2023) لنور عويضة، و"قلب ضائع وأحلام أخرى من بيروت" (2023) للبنانية الفرنسية مايا عبد المالك.

في الأول، يكتشف سكّان بلدةٍ، في صباحٍ ما، أنّ النباتات والزهور والأشجار المجهولة نبتت فجأة في الشوارع. ترافق هذا الظهور الغريب، تدريجياً، أحداثٌ غريبة وغامضة. تبادر شابتان للتحقيق في أصول هذه المخلوقات المذهلة الجديدة، وتسترشدان برسومٍ إيضاحية لعالِمِ نبات. تبحثان في بيروت عن حديقة مخفيّة، لا يمكن تحديد موقعها. بحسب تقديم المهرجان للفيلم، الحديقة موجودة في كلّ مكان، وفي لا مكان، في الوقت نفسه. بيروت في الفيلم تحضر كالمدن التي تبدو بعد كارثة ودمار، كمدينةٍ تُستأنف الحياة فيها، مع فجوات وحفر انفجارات يمكنها أنْ تلتئم بنباتات مُعمّرة.

في الثاني، يتجسّد أهل بيروت، مدينة الأشباح التي لا توجد إلاّ في الأحلام، في صُوَرٍ لأولادٍ يقفزون فوق الصخور، وفي شاطئ شعبي، ومخيمات فلسطينية، حيث قطط تئنّ، وعجوز تدخّن، وشباب يرقصون في أمسيات الأعياد. إنها بيروت ما بعد الحرب، حيث التعايش بين الحياة والموت، وبين أحلام مأساوية وومضات من ضوء. فهل لا تزال موجودة، أمْ أنّ هذه الصُوَر آخر الآثار التي لا يزال ممكناً الاحتفاظ بها، والمدينة في طور الانهيار؟ عبد المالك، التي ترى بيروت مكاناً للمقاومة والحياة، تقدّم فيلمها هذا بعد فيلمين نالا جوائز عدة: "في بلدٍ يشبهك" (2010) و"رجال واقفون" (2015).

في أقسامٍ أخرى (8)، هناك ما يعطي فكرة عن غنى المهرجان وتنوّع عروضه. فيلمٌ لبناني آخر في قسم "عروض خاصة" الذي يُنظّم يومياً بحضور السينمائيين: "الشاطئ الآخر" (2022) لماهر أبي سمرا، الذي يُصوّر معوّقين، وكيف يمكنهم استعادة صورتهم. سيلفانا ومحمد توحّدهما جراح مشتركة، فهي معوّقة وهو كفيف. لكنهما يرفضان العزلة في عالمٍ منفصل، ويتمرّدان على صورة العجز المفروضة عليهما. مقاومتهما مستمرة، وحريتهما لا يُمكن كبتها. معاً، يشكّلان ثنائياً لا ينفصل، في كلّ لقاءٍ لهما، في بيروت أو باريس، يبدوان حُرّين وقويَّين.

في القسم نفسه، فيلمان من إنتاج فرنسي سويسري، للإيراني الفرنسي مهران تمدّن الذي أخرج 3 أفلام، شارك اثنان منها في مهرجانات فرنسية، بينها "سينما الواقع". في "باسيج" (2010)، حاور متطوّعي حماية الثورة الإسلامية في إيران، في محاولة فهم "الآخر" الإيراني، المجهول والبعيد عن الأوساط الأدبية والفنية في إيران، تلك التي تتبنّى الآراء نفسها، وتتحدّث عن إيران من دون أنْ تعرفها، كما قال. في "إيراني" (2014)، حاول إثارة نقاش مع الملالي. تمدّن، الذي غادر إيران صبياً (10 أعوام) ونشأ في فرنسا، تشغله باستمرار قضية السلطة التي تحكم مسقط رأسه. له اليوم في المهرجان فيلمان طويلان، من إنتاج فرنسا وسويسرا، عن سجون النظام الإيراني: "هناك حيث لا يوجد إله" (2023) و"أسوأ عدو" (2022). في الأول، قصص 3 إيرانيين اعتُقلوا واستُجْوبوا من النظام الإيراني. يشهد الثلاثة بأجسادهم وإيماءاتهم، ليُعبّروا عما تعنيه المقاومة، وماذا يعني الانهيار. فيه، يُطرح سؤالٌ عن أيّ أمل في مُعاودة الجلاّد، ذات يومٍ، التواصل مع ضميره.

يقول مهران تمدّن إنّه لا يستطيع اليوم العودة إلى بلده، من دون معاناة واستجوابات. لذلك، طلب من الفنانين الإيرانيين في المنفى تصوير استجوابه في فرنسا، كما تفعل عناصر أمنية لدى الجمهورية الإسلامية. أحد الفنانين، على معرفة مباشرة بأساليب أجهزة الاستخبارات هناك، قَبِلَ التحدّي، فصوّر تمدّن "أسوأ عدو"، وهو يتساءل عن إمكانية ذهابه إلى إيران، وأعطاهم هذا الشريط، الذي يدرك أنّه (الشريط) سيُنهي حريته في الحركة بين فرنسا وإيران، كما قال.

في قسم "عروض خاصة"، فيلما الافتتاح والختام الفرنسيان: "الجنة" (2022) لألكسندر آباتوروف، و"أورلاندو، سيرتي السياسية" (2023) لبول بريشيادو، اللذان يُعرضان في مركز جورج بومبيدو الثقافي، مقرّ العروض الرئيسية لبرامج المهرجان.

في مبادرة من جمعية أصدقاء سينما الواقع، تُنظَّم، في "منتدى الصُور" (شريك المهرجان)، في يوم مفتوح، طاولات مستديرة عن "فضاءات الإبداع الوثائقي: من المدينة الفاضلة إلى النموذج". ستركّز النقاشات على دور سينما الواقع في إعادة ابتكار نفسها باستمرار، في مواجهة القيود الجديدة، والتهديدات التي تواجه الإبداع، مع التركيز على دور السينما الوثائقية الفرنسية في هذا. تلك السينما، المعترف بها، والحائزة جوائز في العالم، بفضل حيويتها وتفرّدها في تجديد الأشكال والآراء والمواهب، ولأنّها عرفت في تاريخها كيف تبتكر طريقها  الخاصة، اقتصادياً وسياسياً، من أجل الوجود.

المساهمون