بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
تعددت الروايات حول وفاة نجمة السينما المصرية سعاد حسني في لندن سنة 2001، وكل رواية فيها معطيات قابلة للتصديق، وتتضمن نقاط ضعف. الأولى تنسب وفاتها إلى الأمراض التي عانت منها في سنوات عمرها الأخيرة، والثانية تفترض إقدامها على الانتحار، والثالثة تشير بأصابع الاتهام إلى أنها اغتيلت، ولأسباب سياسية.
عانت سعاد حسني من مرض مرهق، بدأ بضعف في بعض فقرات العمود الفقري، الأمر الذي سبّب لها آلاماً مبرحة، شعرت بها أثناء تصوير فيلم "الدرجة الثالثة" سنة 1987. خضعت لعلاج كان نفعه مؤقتاً. وبصعوبة أدّت دورها في آخر أفلامها "الراعي والنساء" (1991). ثم سافرت إلى فرنسا وخضعت لعملية جراحية أراحتها لسنوات قليلة. وتفاقم الأمر عندما اعتراها شلل في الوجه نتيجة الإصابة بفيروس، وكان علاجها بالكورتيزون الذي يؤدّي إلى البدانة. ثم سافرت إلى لندن لاستكمال العلاج، وكانت حالتها الصحية تشهد بين فترة وأخرى مَيْلاً إلى التحسّن. كل هذه أمراض تهدّ الحيل، يمكن أن تؤدي إلى جلطة مميتة في القلب، لكنها ليست سبب سقوطها من شرفة الطابق السادس.
المعاناة من الأمراض، مقرونة بآلام نفسية بسبب البدانة، وبسبب انحسار الأضواء، تنجمُ عنها حالة نفسية لا يُستَهان بعواقبها على النجمة التي تمتعت بتصفيق الجمهور وبعبارات المديح. ثم بلغها نبأ وفاة والدتها فلازمها الحزن الشديد العميق، وسيطر عليها. قادتها تلك الحالة النفسية السيئة إلى الاكتئاب، فتقوقعت منزوية تجترّ أحزانها وتتأمّل مجداً أظْلَمَه الغروب. اضطرت سعاد حسني للاعتزال وهي في الثامنة والأربعين من عمرها، وماتت وهي في الثامنة والخمسين، وأمضت السنوات العشر الأخيرة من عمرها في موت معنوي غير معلن. من المحتمل أن يقود الاكتئابُ المزمن المصابَ به إلى الانتحار أحياناً. لكن معنوياتها كانت قد بدأت تتحسن، وسجّلت حلقات إذاعية مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC قرأت فيها رباعيات صلاح جاهين وقصيدته "المكنجي" التي كتبها دعماً لانتفاضة الأقصى. وكان هناك مشروع تعاون بينها وبين إذاعة MBC.
في عام 2000 أعددتُ وقدمتُ في هذه الإذاعة مسلسلاً من 30 حلقة عن نجوم الطرب العربي في القرن العشرين. وذهبتُ لزيارة مديرها آنذاك، جورج قرداحي (الذي شغل من بعد منصب وزير الإعلام اللبناني لفترة) فقال لي "لو حضرت قبل دقائق لكنت التقيت نجمة كبيرة، لكنك ما كنت لتعرفها. هي سعاد حسني. تغيّر شكلها كثيراً". قلت "فعلاً ما عرفتها. التقيتها عند مدخل البناية، لم يخطر في بالي أن هذه السيدة البدينة التي لا تهتم بملابسها هي نجمة النجوم سعاد حسني". المهم في هذه الحكاية أنها اتفقت مبدئياً مع الإذاعة على تقديم مسلسل، ينفعها مادياً ومعنوياً. هذه القرائن تقودني إلى استبعاد فكرة الانتحار، في أيام كان انتصارها على الاكتئاب ممكناً.
بقيت الرواية الثالثة، رواية الاغتيال. تولّت جهات عدة، منها الشرطة البريطانية، التحقيق في الجريمة. ولم تصبح القرائن أدلة اتهامية حاسمة. وفي مثل هذا النوع من الجرائم، يصعب في حالات كثيرة الوصول إلى الحقيقة التي لا تقبل شكّاً. لنتذكر الرئيس الأميركي جون كيندي، ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري. كلاهما قضى اغتيالاً، برصاصات أو بتفجير. لكن التحقيق لم يصل إلى ما يشفي الغليل. ظلّت هناك مساحات يغطيها غموض كثيف. يكفي أن المحرّض والمنفذ ينتميان إلى أجهزة تتقن طمس الأدلة. الأمر ذاته في ما خصّ الأميرة البريطانية ديانا، وقد قضت في باريس إثر حادث سيارة. قيل إن هذه المأساة قضاء وقدر، لكن أغلب الناس تولّدت لديها الظنون التي لامست حد اليقين، بأن الحادث فعل جُرمي. دائماً ضاعت التحقيقات في متاهات معقّدة، يفيد منها الفاعل، ويجعلها تقادم الزمن طي النسيان.
في كل الأحوال، ماتت سعاد حسني في ظروف مأساوية، وعمّ التأسف على رحيلها العالم العربي. حزن الناس لغياب نجمة محبوبة لم تبلغ الستين، وكانت قد ظلّت متألقة 32 عاماً، منذ فيلمها الأول "حسن ونعيمة" (1959) حتى آخر أفلامها. كان عبد الرحمن الخميسي، الشاعر والكاتب والمتعدد المواهب، قد اكتشفها، وخطط لتقديم مسلسل إذاعي عنوانه "حسن ونعيمة" تؤدي فيه سعاد حسني دور البطولة. لكن المشروع لم يتحقق، فحوّل عبد الرحمن الخميسي نصّه إلى قصة سينمائية، واشترك في كتابة السيناريو والحوار مع هنري بركات الذي أخرج الفيلم. رشّح سعاد حسني لدور البطولة، فقدّمها بركات مع الوجه الجديد الآخر، المغنّي محرم فؤاد. كانت سعاد في السادسة عشرة من عمرها، وأدّت دورها ببراعة فائقة، فأمكن القول إنها وُلدت نجمة.
خلال 32 عاماً أدّت سعاد حسني أدوار البطولة في 91 فيلماً. لم تتعلم أصول التمثيل ولم تكن لها دراية بتقنياته، لكن موهبتها الفطرية كانت كافية. وقد أحسنت تطويرها مع تزايد خبراتها، واستيعابها ملاحظات المخرجين وأصحاب المعرفة. تمكّنت من أداء مختلف الأدوار ببراعة في أفلام كوميدية أو مأساوية، عاطفية أو سياسية. كانت مقنعة للغاية وهي تؤدّي دور بنت المدينة أو بنت الريف. العاشقة الموفّقة أو المظلومة. وفي بعض الأفلام غنّت وراجت أغانيها. كانت نموذجاً للفتاة المصرية الجميلة، خفيفة الظل، جيّاشة المشاعر. تطابقت هذه الصورة مع المثال الذي تحلم به كل فتاة، ومع صورة فتاة الأحلام التي ينشدها كل متفرّج شاب. وهذا يفسّر أسباب تمتّعها بشعبية كبيرة، لدى الجمهور النسائي والرجالي، مثلها مثل فاتن حمامة.
وقفت أمام الكاميرا في أفلام تولّى جميع المخرجين العاملين في السينما المصرية إخراجها، ما عدا حفنة نادرة. تقدَّم علي بدرخان ونيازي مصطفى لائحة المخرجين الذين أداروا أفلامها. مع جيل الرواد: فضلاً عن بركات، مع يوسف شاهين (الاختيار)، وصلاح أبو سيف (الزوجة الثانية)، وسعيد مرزوق (الخوف)، وكمال الشيخ (على من نطلق الرصاص)، وفطين عبد الوهاب (إشاعة حب)، وعاطف سالم (أين عقلي). ومن جيل الشباب، على سبيل المثال: علي بدرخان (الكرنك)، وسمير سيف (المتوحشة)، ومحمد خان (موعد على العشاء)، وشريف عرفة (الدرجة الثالثة). والسواد الأعظم من أفلامها عرف النجاح الملحوظ. حتى عندما لم يأتِ الفيلم على المستوى الفنّي الجيد، لم يكن أداؤها سبب الفشل.
حقق فيلم "خلّي بالك من زوزو" إيرادات خيالية أينما عُرض في العالم العربي. فيه مثّلت دوراً حافلاً بالمشاعر، وغنّت من ألحان كمال الطويل "يا واد يا تقيل". شاركها حسين فهمي البطولة، وكان حسن الإمام مخرجه، والشاعر والفنان التشكيلي والصحافي صلاح جاهين كاتب السيناريو والحوار. وهو من أقرب الناس إليها: الصديق المخلص والمثقف الذي لا يبخل عليها بالنصائح. وبالطاقم ذاته: حسن الإمام، وحسين فهمي، وصلاح جاهين قامت ببطولة "أميرة حبّي أنا".
عُرف عن سعاد حسني احترامها الكامل توجيهات المخرجين. حتى عندما بلغت ذروة النجاح كانت في حضرتهم كالتلميذة المطيعة. وكنتُ شاهداً على حادثة معيّنة. في فترة تصوير "أميرة حبّي أنا" أنتجت شركة "تلفزيون لبنان والمشرق" برنامجاً من تقديم رياض شرارة والمذيعة السورية المتمصّرة رشا مدينة، حاورا فيه شخصيات أدبية وفنيّة من لبنان ومصر.
كنتُ مشرفاً على إنتاج الحلقات التي تصوَّر في مصر. أُعطيِتُ قائمة تضمّ أربعين شخصية بينها سعاد حسني. سبقت فريق العمل بعشرة أيام للاتصال بالنجوم ووضع برنامج العمل اليومي. حضر الوفد ومعه المخرج ألبير كيلو. تولّى المخرج سمير سيف ترتيب الموعد مع سعاد حسني. هو زميل أيام الدراسة في المعهد العالي للسينما، وكان يعمل في ذلك الفيلم مساعدَ المخرج حسن الإمام. ذهبنا إلى استوديو التصوير وكانت سعاد حسني فرغت لتوّها من الماكياج. تهيّأ الفريق اللبناني للتصوير في ركن من البلاتوه. نصحتُ ألبير كيلو بأن يجري مقابلة مع حسن الإمام، بالرغم من أن اسمه ليس مدرجاً في القائمة. قلتُ له "أعرفه وأعرف مزاجه. لن يقبل بإهماله وتجاهله. أجروا معه مقابلة من بضع دقائق ولا تستخدموها". لم يحفل برأيي، معتمداً على أن النجمة الكبيرة موافقة وهي صاحبة الشأن. كان حسن الإمام يراقب استعدادات الفريق اللبناني. ومن ملامح وجهه أدركتُ أنه يضمر ردّاً على طريقته. انتظر صوت ألبير كيلو يقول top أي "ابدأوا التصوير" حتى صرخ بصوت عال "ستوب" أي "أوقفوا التصوير"، ثم استطرد "إيه اللي بيحصل ده؟ هي الدنيا سايبة والا إيه؟ أنا هنا سيد البلاتوه. يللّا، لمّوا الكراكيب وامشوا. وانت يا سعاد هانم تعالي هنا. حنصوّر أول لقطة". انصاعت سعاد حسني (وهي في ذروة مجدها) واعتذرت من الفريق اللبناني، وتوجّهت إلى حيث يجلس حسن الإمام.
كل أفلام سعاد حسني أفلام مصرية، وإنْ شاركت في أفلام أجنبية مثل "أفغانستان لماذا" (1983) مع زميلها عبد الله غيث، ومع نجوم عالميين، منهم إيرينا باباس وتيلي سافلاس. وكان الفيلم من إخراج المغربي عبد الله المصباحي. قبله بسنتين قامت ببطولة الفيلم العراقي "القادسية"، وهو من إخراج صلاح أبو سيف. وكانت بطلة فيلم "الناس والنيل" وهو إنتاج مصري – سوفييتي مشترك من إخراج يوسف شاهين. وفي 1967 تولّت في بيروت بطولة فيلم "نار الحب" للمخرج المصري المقيم آنذاك في لبنان، فاروق عجرمة. شاركها حسن يوسف البطولة، وتوزعت الأدوار على ممثلات وممثلين من لبنان، بينهم فيليب عقيقي، الذي سهّل لي لقاء سعاد حسني. وكان أول لقاء بيننا.
أذكر من هذا اللقاء سؤالاً طرحته عليها وإجابتها الصريحة: "نعم، والدي الخطّاط محمد حسني البابا من مواليد دمشق. جاء إلى مصر في عمر الشباب، وما زال مقيماً فيها (توفي بعد سنتين في القاهرة). وهو حاصل على الجنسية المصرية. والدتي مصرية، وهي زوجته الثانية. وله من زوجته الأولى، المصرية أيضاً، أختي نجاة الصغيرة وأخي الملحّن والعازف عز الدين حسني. نشأتُ وأعيش في مصر، ولهجتي مصرية. أعرف أن آل البابا يعيشون في سورية، ومنهم ابن عمي الممثل أنور البابا، الذي اشتهر بشخصية (أم كامل)، التقيته مرة، هنا في بيروت".
وفي حياتها الخاصة، كانت سعاد حسني امرأة عاطفية للغاية. تزوجت خمس مرات. قيل إن الزيجة الأولى كانت مع عبد الحليم حافظ، بعقد عرفي، لم يُعلَن عنه. وقد ذكر الصحافي المصري مفيد فوزي أنه يملك نسخة من العقد، لكنه لا ينشرها احتراماً لخصوصية النجمين. ثم تزوجت عام 1966 المصوّر السينمائي صلاح كريم، ودام القران سنتين، تحول فيها إلى مخرج فيلم "الزواج على الطريقة الحديثة"، وكان من بطولتها. ثم كان علي بدرخان زوجها الثالث بعد قصة حب كبيرة. كان سنة 1968 يعمل مساعداً لوالده المخرج أحمد بدرخان في فيلم "نادية" من بطولتها. بعد سنتين تم الزواج الذي دام 11 عاماً. تزوجت على إثره زكي فطين عبد الوهاب، وكان لا يزال طالباً في معهد السينما. دامت الزيجة أشهراً قليلة، بسبب اعتراض والدته المطربة ليلى مراد، لفارق السنّ بينهما. وأخيراً تزوجت سنة 1987 السيناريست ماهر عواد، كاتب فيلم "الدرجة الثالثة".