بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
حين استقل إيلي شويري عن الغناء بإدارة الأخوين رحباني، كان قد بلغ سقف الطموحات المتاحة. كان مغنّياً متميّزاً في المسرحيات الرحبانية، لكن كانت تلك هي الحدود. لم يكن مرشحاً لدور البطولة في وجود نصري شمس الدين، أو عند حلول وديع الصافي ضيف شرف. ولم يكن المجال مفتوحاً ليظهر مواهبه في نظم الأغاني وفي التلحين، بوجود الأخوين رحباني أو بمساهمة فيلمون وهبي ثم إلياس وزياد الرحباني بلحن أو لحنين. حمل مواهبه ورحل ليشق لنفسه طريقاً مستقلة، برغم إعجابه بالإبداع الرحباني، وهو لم يُخْفِ ذلك يوماً. وكان قد لفت الأنظار ونال إعجاب الجمهور، منذ إطلالته الأولى مع الأخوين رحباني سنة 1964 في المسرحية الغنائية "بياع الخواتم". صوته ذو بحّة خاصة لا يشبه أصوات الآخرين من أقرانه في الفرقة. ودوره طريف ورئيسي في أحداث هذه المسرحية إلى جانب شريكه في معارضة مزاعم المختار، جوزف ناصيف (عيد وفضلو)، وكان أن حفظ الجمهور اسم الوجه الجديد إيلي شويري.
وفي السنة التالية كان له دور بياع "دواليب الهوا" في المسرحية التي أدت صباح دور البطولة فيها، واشتهرت الأغنية التي يؤديها مع صباح "عصفورك يا صغيّر طيّر". ثم توالت مشاركاته في سلسلة مسرحيات كانت فيروز تؤدي دور البطولة فيها، ومنها "أيام فخر الدين"، و"هالة والملك"، و"الشخص"، و"جبال الصوان"، و"يعيش يعيش"، و"صحّ النوم"، و"ناس من ورق"، و"ناطورة المفاتيح" و"المحطة". كما ساهم في المسلسل التلفزيوني الذي كتبه ولحّنه الأخَوان رحباني "من يوم ليوم" وكان من بطولة هدى، وفيه غنّى "سَكَّر الكاراج".
منذ منتصف الستينيات (القرن العشرين) ارتبط اسم إيلي شويري بالألحان الرحبانية. لكن الذي اكتشفه وقدّمه للجمهور لأول مرّة في لبنان هو روميو لحود في مغناة "الشلال" (1963) وكانت من بطولة صباح وجوزف عازار، وبمشاركة سمير يزبك وإيلي شويري.
وقبل أن يغنّي في لبنان، ولدت علاقته مع الموسيقى والغناء في الكويت، التي قصدها مطلع الستينيات بدعوة من صديق للاستجمام بعد إصابته بكسر في ذراعه. كان يهوى الغناء ويحفظ ألحان مشاهير زمانه. وفي الكويت التقى المطرب والموسيقي الكويتي الشهير عوض الدوخي الذي درّبه على العزف على العود، ولقّنه أصول الغناء، وحظي بدعم عبد العزيز جعفر مدير إذاعة الكويت. وحين زارت فرقة "الأنوار" اللبنانية الكويت لتقدم عروضها سنة 1962 كان إيلي الشويري بين الحاضرين، وراوده الحلم أن يقف على خشبة المسرح ويغني مثل الذين يشاهدهم ويسمعهم، وأذهله بطل العرض وديع الصافي بصوته الذي لا مثيل له، ولاحقاً حين عرفته أخبرني أنه ظل ثملاً مدة ثلاثة أيام بتأثير أداء الصافي أغنية "لبنان يا قطعة سما". وحين عاد بعدها إلى بيروت لم يكن يدري أنه سيكتب ذات يوم أغنيات ينشدها المطرب الكبير.
انتقل إيلي شويري من مصاف هواة الموسيقى والغناء إلى المحترفين. وفي وقت مبكر انضم إلى لائحة المشهورين. وكان محترفاً محبّاً للمهنة، شغوفاً بتعلّم كل جديد. وعندما غادر الفرقة الرحبانية ظلّ على علاقة مودة مع الأخوين عاصي ومنصور، ولم ينسَ مكتشفه روميو لحود. تدور الأيام، ويعود إلى التعاون معهم.
في السينما شارك إيلي شويري في فيلم "بياع الخواتم" الذي أخرجه يوسف شاهين، مؤدياً الدور ذاته الذي لعبه في المسرحية. وشارك في فيلمَيْ فيروز الآخرَين، أي في "سفر برلك" و"بنت الحارس"، وكانا من إخراج بركات. وظلّ نادر الأتاسي منتج هذه الأفلام سنوات يحلم بتحويل مسرحية "هالة والملك" إلى فيلم سينمائي تتولى فيروز بطولته. وحين تحقق الحلم متأخراً سنة 2009 لم يكن من بطولة فيروز، إذ حلّت ميريام فارس في دورها. ولم يشارك في الفيلم الذي أخرجه حاتم علي أحدٌ من الذين قدموا المسرحية إلى جانب فيروز. كانت الأدوار الرئيسية من نصيب دريد لحام وأنطوان كرباج وأيمن زيدان وجورج خباز. الوحيد الذي أدّى الدور ذاته "هبّ الريح" في المسرحية والفيلم هو إيلي شويري.
مع روميو لحود، عاد إيلي شويري للعمل مغنياً وممثلاً وملحناً في مسرحياته، ومنها "أوكسجين" وقد شاركته البطولة فيها سلوى القطريب. وبلغ مجموع الألحان التي قدمها لسلوى سبعة، منها "وقّف يا زمان" (أو: خلّينا عاشقين)، ومنها "بلدك بلدي يا جار". وفي الكلمة التي كتبها مهندس الصوت ناهي لحود لرثاء إيلي شويري، ذكر أنه سأل زوجته سلوى أيّ الألحان تغريها بالأداء، ما عدا ألحان شقيقه روميو، فأجابت بعفوية "ألحان إيلي شويري".
ومع صباح التي غنّى معها وهو يشقّ الطريق في بداياته دويتو "عصفورك يا زغيّر"، عاد ناظماً وملحناً وممثلاً في مسرحيات وسيم طبارة، مثل "حلوي كتير" و"ست الكل".
أما وديع الصافي الذي أذهله وهو يشاهده في أول عرض مسرحي غنائي، فلقد انتقل إلى عالمه الفني من مقاعد المتفرجين إلى قواعد ناظمي الأغاني. وديع الصافي غنّى من كلمات إيلي شويري بعضاً من أجمل أغانيه، منها "بلدي" و"من يوم من يومين كنا زغار" وهما من ألحان وديع، واللوحة الغنائية "بعدهم ببالي" (أو "الحطابين") وهي من ألحان إلياس الرحباني. وفي هذه الأعمال الثلاثة تلمس مدى تأثر إيلي شويري بالأخوين رحباني، وإعجابه بما يكتبان:
في أغنية "بلدي": "بلدي/ آه يا بلدي/ بلدي يا قصة الجداول، يا لون الفرح/ يا ملعب عصافير، يا حكاية نواطير/ بلدي يا ذهب السنابل وكروم الذهب/ يا مَلفى الجوانح، يا مواسم الإلفِه/ ومعمّرة بقلوب ملياني، ومزيّنة بزهور وغناني.... ". طبعا ليس في الكلمات نقلٌ أو اقتباس، لكن الواضح أنه يصيد الكلمات من قاموس التعابير الرحبانية. والقول نفسه ينطبق على لوحة "الحطابين": "بعدهم ببالي أهل هاك الدار/ متعوب قلبي والفكر محتار/ صارت عيوني مشرّدي اللفتات/ يا مين ياخدني لصوبهم مشوار/ هبّ الهوا وتجرّح الموال/ ولا علم من صوبهم ولا مرسال ....".
وفي أغنية "من يوم من يومين" ترقي كلمات إيلي شويري إلى مصاف الشعر النقي، وتحافظ بوضوح أكثر على المناخ الرحباني: "من يوم من يومين كنا زغار/ نلملم صدى حكايات خلف الدار/ مدري حلم، مدري شي غفوة عين/ صرنا يا قلبي بآخر المشوار/ ع كل مفرق ليل بيسافر قمر/ ببعت معه حكايات وهموم وصور/ ببعت معه مراسيل وغناني الهوى/ تا يسعدوا العشاق ويطول السهر/ كل ما سنونو فارقت قرميدها/ بيغيب من عمري سِنِة/ وكل ما العريشة بكيت عناقيدها/ بترحل دِني، بتبقى دِني....".
ولإيلي شويري ألحان شاعت وهي من لون الأغاني الوطنية. وهي أنواع: من لون "المارش" نشيد "صف العسكر" (وفيها تأثر جلي بتعابير الأخوين رحباني. تقول كلمات شويري: "صفّ العسكر/ رايح يسهر/ مع العسكر/ فوق جبال/ زيد وعمّر/ راح وبَكّر... " وبها أصداء من "بيي راح مع العسكر/ حمل سلاح راح وبكّر/ بيّي علّا، بيّي عمّر ....."). ومن لون الأغنية الوطنية على إيقاع الدبكة: "تعلى وتتعمّر يا دار، ومحميّة بْراجَك" التي أنشدتها صباح، أو "بلدنا يا با" التي ترنّمت بها سلوى القطريب، أو "يا بلادي قدّ التحدي" أغنية ختام مسرحية "الأسطورة" وقد كانت بأصوات صباح وجوزف عازار وفادي لبنان. أما لون الأغنية الوطنية العاطفية فمَثَلُها في "بكتب اسمك يا بلادي/ ع الشمس الـ ما بتغيب/ لا مالي ولا ولادي/ على حبّك ما في حبيب" التي أنشدها جوزف عازار. ولهذه الأغنية حكاية سأسردها لاحقاً.
ويحلو للبعض أن يصنّف إيلي شويري بالقول إنه "ملحن الأناشيد الوطنية" على نحوٍ يطمس إبداعاته الأخرى. وما سبق عرضه من ألحانه يدحض هذا الحصر، وما سيلي سيؤكد تنوّع إبداعاته. بألحان إيلي شويري، غير الأناشيد الوطنية، تنافست صباح وسميرة توفيق على لحن "بإيام اللولو" وكان أن غنّتها المطربتان. كما ذاعت أغنية "يا بلح زغلولي" بصوت داليدا رحمة. فضلاً عن أغاني وطنية مثل "عاشت الأسامي يا بيروت" لراغب علامة، أو القصيدة الوطنية "سقط القناع" التي أدّتها ماجدة الرومي، بلحن إيلي شويري، لمقاطع من قصيدة طويلة للشاعر محمود درويش.
عرفت إيلي شويري أول مرّة سنة 1967 حين شاهدت "هالة والملك" في مهرجان الأرز. كنت موفداً من جريدة "النهار" لأكتب مقالة عنها، نُشرت في ملحق الجريدة الثقافي. بعد العرض تبادلت أحاديث مقتضبة مع نجوم المسرحية وهو منهم. تعددت لقاءات قصيرة جمعتني به على فترات متباعدة. لكن اللقاءات الطويلة كانت في دمشق وحلب صيف وخريف سنة 1976. كنتُ كتبتُ وأخرجت عرضاً مسرحياً من لون "الشانسونييه" بعنوان "سالكة وآمنة" شارك في تمثيل أدواره كوكبة من نجوم المسرح اللبناني. قدمت العروض طول شهر في مطعم في دمّر، وكان جوزف عازار يغني لمدة ساعة بعد العرض. ومن ضمن أغانيه واحدة استعادها الجمهور كل ليلة مع تصفيق حار. أغنية "بكتب اسمك يا بلادي". وذات ليلة حضر الفنان دريد لحام العرض واستمتع بغناء جوزف عازار، خصوصاً بهذه الأغنية. وحين طلب الجمهور إعادة إنشادها صعد دريد لحام إلى المنصة وغنّاها مع جوزف عازار، وتولّينا بعض أعضاء الفرقة وأنا مهمّة الكورس: أحمد الزين وكريم أبو شقرا وجورج إيماز. ومن شدة إعجابه بها، غنّاها دريد لحام لاحقا في مسرحيته الشهيرة "كاسك يا وطن". لم يكن إيلي شويري حاضراً مع الجمهور تلك الليلة، لكنه كان حاضراً، وبقوة، بكلماته ولحنه.
من دمشق انتقلت الفرقة إلى حلب، وقدّمنا عروضنا لمدة أربعة أشهر متتالية. وكان البرنامج كما في دمشق: الجزء الأول مخصص للعرض المسرحي، والجزء الثاني للطرب. في حلب لم يكن المطرب جوزف عازار، وإنما إيلي شويري. وبحكم العمل، كنت ألتقيه كل ليلة. وكثيرا ما تقابلنا خلال النهار، وكان ينضم إلينا مصمم الديكور والأزياء غازي قهوجي. ذات يوم أسمعنا إيلي شويري أغنية جديدة كتبها ولحنها: "يا ناس حبّوا الناس/ الله موصّي بالحب". هذه الأغنية ولدت وأُنشدت لأول مرّة في حلب. ومعروف عن الجمهور الحلبي أنه يتذوق الغناء الجيد، وكانت أغاني إيلي شويري تطربه. وكان في كل ليلة، يضيف إلى أغانيه، منتخبات من أغاني عبد الوهاب وفيروز ووديع الصافي.
تزوج إيلي شويري وهو في السادسة والعشرين من عمره، وأنجبت زوجته عايدة أبي عاد ثلاث بنات: نيكول وكارول وسيلينا، واسم الأخيرة مستوحى من مسرحية "هالة والملك" التي تدور أحداثها في بلدة سيلينا. وهو قد عاش حياة هادئة، صديقاً وفيّاً لأصدقائه، وزميلاً متعاوناً مع أقرانه. وفي السنوات الأخيرة اشتدّ عليه مرض ارتفاع ضغط الدم، يرافقه تهديد داء السكّري. آثر الانزواء في بيته، وابتعد عن الأضواء التي رافقته وسطعت عليه لسنوات وسنوات. وكانت وفاته، قبل أيام، في الثالث من مايو/ أيار، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين. أسلم الروح في بيروت التي ولد فيها في السابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1939.