قبل عام، قرّرت نيابة أمن الدولة العليا المصريّة، حبس الطالب الجامعي الشاب عز منير خضر، على خلفيّة "جريمة" رفعه علم فلسطين في استاد القاهرة، أثناء مباراة كرة القدم التي جمعت منتخبي مصر وجنوب أفريقيا. لا يزال خضر في السجن حتى اليوم، حاله كحال المئات من المصريين الذين لم يفعلوا شيئاً سوى طلب الحياة، لكنّ ذلك لم يمنع النظام من الانقضاض عليهم، وترويعهم وتهديد أسرهم، فقط لأنّهم أرادوا التعبير عن رأيهم.
قد تبدو هذه القضيّة بعيدةً عن فضيحة الفنان المصري محمد رمضان، والذي نُشرت صور تظهره مع إسرائيليين في دبي، ما أثار ردود فعلٍ محلية وعربية تطالب بمحاسبته ومقاطعته. لكنّ الحقيقة أنّ القضيّتين متداخلتان. فالنظام المصري الذي حبس عزّ خضر، هو نفسه الذي جعل من رمضان "رمزاً" في التمثيل والغناء، و"الرقم واحد" في تزييف الوعي من خلال "فنّه" الذي يبيّض صورة النظام وشرطته وجيشه بينما يقومون جميعاً بانتهاك حقوق المصريين، وصولاً إلى وقوفه "نمبر وان" (يلقّب نفسه بذلك بعد أغنية أصدرها بنفس العنوان) على مسرح التطبيع.
السبت الماضي، نشرت صفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية" التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، عبر منصات التواصل الاجتماعي، صورةً لرمضان مع مغنٍ إسرائيلي أثناء حضور فعالية معينة في الإمارات. وعلّقت الصفحة على الصورة "الفن دوماً يجمعنا.. النجم المصري محمد رمضان مع المطرب الإسرائيلي عومير آدام في دبي". ثم نشرت الصفحة صورة أخرى تجمع بين رمضان ولاعب كرة القدم العربي الإسرائيلي ضياء سبع، خلال الحدث نفسه في دبي. قبل أن تنتشر له صور أخرى من نفس الحفل الذي قال معلّقون إنّه كان يحتفي بالإسرائيليين وأن لا مجال لعدم ملاحظة ذلك فيه.
على الفور، شنّ مستخدمو مواقع التواصل حملةً لمقاطعة رمضان، وكل ما يتعلق به من أعمال وحسابات وقنوات. واتهمه المغردون بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ودشنوا وسمي #قاطعوا_محمد_رمضان و#مقاطعة_محمد_رمضان، كما نشطت التغريدات عبر وسم #التطبيع_خيانة. وبتتبع مسار تطور ردود الفعل على قضية رمضان، يظهر بوضوح أن التطبيع، وإن كان في الشق الفني، لا يمرّ مرور الكرام شعبياً، حتى في مصر التي أبرمت سلاماً مع إسرائيل منذ عقود. لذلك، تضطر أطر نقابية غير بعيدة بتاتاً عن أجواء النظام المصري إلى مجاراة الرأي العام في هذه النقطة، وتتخذ قرارات تصب في خانة إظهار نفسها في مظهر الحريص على مقاطعة إسرائيل وإسرائيليين، مثلما فعلت نقابة المهن التمثيلية في مصر أخيراً.
بدايةً، استنفرت الأذرع الإعلامية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل أن تصدر لها أوامر بتجاهل القضيّة. هكذا، هاجم المذيع أحمد موسى على فضائية "صدى البلد"، والذي يذاع برنامجه "على مسؤوليتي" في وقت مبكر، رمضان وطالبه بتوضيح حقيقة الصورة مع المطرب الإسرائيلي، وقال "لازم يقولنا حقيقة الصورة وهل يعرف هو أتصور مع مين وإيه ظروف الصورة دي؟". وفي اتصال مع نقيب الممثلين أشرف زكي، نقل عن رمضان تبريره أنه كان في بلد عربي ولا يعرف المطرب الذي التقط معه الصورة، ولم يسأله عن جنسيته، والذي رد عليه مغردون بفيديو من الحفل على وقع موسيقى أغنية إسرائيلية شهيرة، ما يؤكد علمه بجنسية الحاضرين.
سيطر التخبّط على المشهد، فنشر رمضان مقطع فيديو قال إنّه من نفس الحفل، ومع فلسطيني، قبل أن ينشر صورته بالكوفية الفلسطينيّة على "تويتر"، في محاولةٍ لإيضاح "انتمائه للقضيّة". لكنّ ذلك لم يوقف الجدل أو الهجوم عليه. وأصدرت نقابة المهن التمثيلية في مصر، برئاسة نقيبها الفنان أشرف زكي، الأحد، بياناً أكّدت فيه متابعتها للقضيّة، قائلةً "مجلس النقابة، إذ يتناول تفاصيل هذه الواقعة المثيرة للجدل ليؤكد أولاً الدعم التام والكامل لحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق والتزام النقابة بالموقف الجمعي للفنانين المصريين وتمسكها الدائم بقرارات اتحادات النقابات الفنية المصرية والعربية تجاه مثل هذه التصرفات". وتابع البيان: "المجلس في موقفه هذا يدرك تماماً الفرق بين المعاهدات الرسمية التي تلتزم بها الحكومات العربية والموقف الشعبي والثقافي والفني من قضية التطبيع، علماً بأن مجلس النقابة يحتفظ بحقه في اتخاذ ما يراه مناسباً من إجراءات وقرارات في ضوء اللوائح الداخلية".
يوم الإثنين، قرّر الاتحاد العام للنقابات الفنية في مصر وقف رمضان موقتاً عن العمل لحين التحقيق معه. ونشرت نقابة المهن التمثيلية في مصر، على صفحتها الرسمية في موقع فيسبوك، قرار الوقف المقتضب، وجاء فيه "قرر الاتحاد العام للنقابات الفنية في جلسته المنعقدة اليوم (الاثنين) وقف عضو نقابة المهن التمثيلية/ محمد رمضان، لحين التحقيق معه بحد أقصى في الأسبوع الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2020". ومن جانبه، أصدر مجلس نقابة الصحافيين المصريين قراراً ملزماً لأعضاء الجمعية العمومية بمقاطعة أخبار رمضان، وعدم نشر اسمه أو صورته في أي منصة صحافية لحين انتهاء التحقيق معه في نقابته، وأكد المجلس أن مخالفة قرار مقاطعة هذا الممثل، ستخضع مرتكبها للمساءلة التأديبية وسيحال فوراً إلى لجنة التحقيق النقابية. وجدد مجلس نقابة الصحافيين تمسكه "بجميع قرارات الجمعيات العمومية السابقة بحظر جميع أشكال التطبيع المهني والنقابي والشخصي مع الكيان الصهيوني حتى يتم تحرير جميع الأراضي العربية المحتلة، وعودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني".
ردّ رمضان جاء عبر "فيسبوك" أيضاً، معرباً عن غضبه ومعلناً إيقاف الشركة المنتجة لمسلسله الجديد "موسى". وقال "أحترم قرار النقابة رغم توضيحي لموقفي في موضوع صورتي مع إسرائيلي وإني لا أعلم جنسيته، ولو كنت أعلم كنت مؤكد رفضت التصوير، ثانياً المكان (مطعم) مش حفلة خاصة واشتغل أغاني عربي وإنجليزي وفرنسي ولما الأغنية الإسرائيلية اشتغلت مش عارف المفروض كنت أسيب صحابي وأجري أعيط في الأسانسير ولا أعمل إيه؟! أنا في دولة عربية والموقف جديد علينا يا فندم ورغم توضيحي للسيد النقيب تم إيقافي عن التمثيل في مصر شكراً نقابة المهن التمثيلية.. شكراً شركة الإنتاج على إيقاف مسلسلي رمضان القادم.. شكراً جمهوري لعدم دعمكم لي، ثقتي في الله وحده".
تشهد المنطقة العربيّة غلياناً شعبياً، إذ يرفض أغلب العرب التطبيع مع الكيان الصهيوني، فيما تهرول له دول لا تسمح لشعوبها بالتعبير مطلقاً. هكذا، أعلنت الإمارات والبحرين عن تطبيع العلاقات، لا بل إعداد الصفقات، قبل أن يليهما السودان الشهر الماضي. وبالرغم من أنّ مصر هي أول دولة عربيّة أبرمت السلام مع إسرائيل، عن طريق الرئيس الراحل أنور السادات في 1978، إلا أن أربعين عاماً العلاقات الدبلوماسيّة بين الدولتين لم تغيّر من رفض الشعب المصري للتطبيع، ودفاعه عن القضيّة الفلسطينيّة. هذا كلّه، تدركه الأنظمة المهرولة نحو التطبيع، وهي لغاية تغيير هذا الواقع، والتحريض على القضيّة الفلسطينيّة قصد إيجاد تبرير لقراراتها، تزجّ بالعديد من الفنانين والإعلاميين والمدوّنين والمشاهير على مسارح التطبيع، كي يحذو المواطنون حذوهم.
وإن كشفت قضيّة رمضان، المستمرّة والمتوقّع أن لا تفضي إلى شيء على الصعيد الرسمي في مصر، فهو تخبّط النظام حتى اليوم واستنفاره عند اتهامه بالتطبيع. فالنظام نفسه الذي سجن فتيات "تيك توك" زوراً بتهمة "المسّ بالقيم المصريّة"، يعي جيداً أنّ إحدى أهم القيم بالنسبة للمصريين هي الالتزام بالقضيّة الفلسطينيّة، وأنّ ذلك قد لا يتغيّر، مهما كثر المطبّعون.