لم يلتق المخرج المصري داود عبد السيد بالجمهور الذي انتقد ذائقته ولا بالمنتجين الذين أهملوه منذ أواخر 2015، حين قدم من تأليفه وإخراجه فيلمه "قدرات غير عادية". طُرح الفيلم في دور العرض في 9 ديسمبر/كانون الأول عام 2015، واستمر عرضه لنحو شهر، إذ لم يحقق أكثر من 400 ألف جنيه، فاضطُرت الصالات لسحبه وإفساح المكان لفيلم آخر يجذب الجمهور.
ويبدو أنّ تأثير تلك الخسارة كان قوياً على تصريحات عبد السيد الأخيرة، فهو لم يقدم عملاً آخر بعد "قدرات غير عادية" يختبر عبره ذائقة المشاهدين. ويبدو أنّ هجومه على جمهور السينما ليس سوى رد متأخر عن المرارة التي تجرعها المخرج المشهور، بعدما ذكرت الصحف أن بعضاً ممن قصدوا مشاهدة الفيلم تركوا صالة العرض قبل انتهائه.
تدور أحداث الفيلم الذي قام ببطولته خالد أبو النجا ونجلاء بدر حول الباحث "يحيى" الذي يفشل بحثه العلمي عن القدرات غير العادية في البشر، ويُجبَر على أخذ إجازة من عمله، فينطلق بلا هدف إلى أن يستقر في فندق مطل على البحر في الإسكندرية، حيث يسكن مع مجموعة من الشخصيات، وهناك تنشأ علاقة بينه وبين صاحبة الفندق، ويتقرب من ابنتها الصغيرة ذات الشخصية القوية، ويعتقد أنّه عثر على السحر الذي لطالما بحث عنه.
لا يزال الأرشيف الصحافي يحتفظ بآراء بعض الجماهير عن هذا الفيلم، فمثلاً يقول أحدهم: "فيلم مناظر حلو... وبس" بينما يقول آخر إنّ الفيلم "عانى فقراً شديداً في السيناريو والحبكة". وبعد سحب الفيلم سريعاً من دور العرض، قال حينها مدير عام غرفة صناعة السينما سيد فتحي إنّ "الأمر خاضع لسياسة العرض والطلب، ومدى إقبال الجمهور على مشاهدة الفيلم، في الوقت الذي يسعى فيه أصحاب دور العرض لتحقيق أرباح مادية، من خلال فيلم يلقى إقبالاً جماهيرياً، ليستطيعوا من خلاله تحمل التكاليف المالية الملقاة على عاتقهم، وفي النهاية السينما صناعة تتعامل بعناصر تجارية".
هكذا أسقط الجمهور المخرج الكبير الذي احتفى به من قبل في بعض أعماله السابقة، فكان رد عبد السيد هو قوله: "لا أستطيع التعامل مع الجمهور الموجود حالياً ونوعية الأفلام التي يفضلها بغرض التسلية". أما عن نجاح أفلامه السابقة جماهيرياً، فبرره بأنّ "الجمهور كانت فيه طبقة وسطى بشرائح مختلفة، وكانت لدى الجمهور هموم واهتمامات، فكانت السينما تخاطب هذه الفئة". وعلى الرغم من أنّه كان يستهدف الجمهور بالكامل في أعماله، لكنّ التجاوب كان يأتي من الفئة الأكثر ثقافة وتعلماً ومن الشباب.
برر عبد السيد سحب "قدرات غير عادية" من دور العرض بالدعاية الضعيفة آنذاك، لكنّ الوقت كان كافياً له طوال ست سنوات ليراجع أقوال النقاد الذين أشادوا بالفيلم من الناحية الفنية ثم اقترحوا مجموعة أخرى من أسباب فشله تجارياً، ومنهم ماجدة خير الله التي قالت إن "أذواق الجمهور اختلفت في الفترة الأخيرة، رغم أن الفيلم جيد الصنع سواء في الإخراج أو الإنتاج أو التمثيل"، وطارق الشناوي الذي رأى أنّ "الجمهور تعوّد دائماً على أن يذهب لنجوم شباك بأعينهم" وأنّ نجلاء بدر "ليست نجمة شباك".
إيمان عبد السيد بالفيلم كان مدعوماً بإشادة كبيرة من النقاد ومجموعة من الجوائز، لذلك صدم هو والنقاد من سقوطه جماهيرياً؛ فمن هو المخطئ إذاً، المخرج والنقاد أم الجمهور؟ وما الذي تغير في ذائقة الجمهور خلال خمس سنوات سابقة حين تصدَّر فيلمه "رسائل البحر" (2010) سباق الإيرادات الأعلى خلال الأسابيع الأولى من طرحه؟ وهل كان آسر ياسين وبسمة ــ بطلا الفيلم ــ نجوم شباك آنذاك؟
من الواضح أنّ وقوف النقاد في مواجهة الجماهير ووضعهم في دائرة الاتهام بأنّهم لا يمتلكون الذائقة المناسبة جاء اضطرارياً لأنّهم أشادوا بالفيلم وبمخرجه قبل طرحه في دور العرض، وهو ما ساعده في الحصول على بعض الجوائز المحلية، مثل جوائز مهرجان المركز الكاثوليكي.
المفارقة أنّه أمام هجومه الواضح على الجمهور، كان عبد السيد مهذباً جداً في نقده للمنتجين الذين هم أصحاب المسؤولية الأولى والمباشرة في عدم إخراجه لأفلام جديدة، فقد ذكر أنّه يمتلك العديد من السيناريوهات الهادفة، لكنّه "ومع كلّ أسف لا يجد جهة إنتاجية متحمسة لتقديم تلك السيناريوهات في أعمال سينمائية، بعكس الماضي، والتحمس الشديد لدى المنتجين الكبار لتقديم أعمال ترتقي بذوق المشاهد".
من الطبيعي إذاً أن نفهم من هذه العبارة أنّ قرار اعتزال المخرج الكبير لم يكن قراره هو، بل قرار المنتجين الذين توافقوا على ألّا يتصل به أحدٌ منهم، فأجبره ذلك على التوقف عن العمل. ولهذا نعود إلى السؤال هل السبب في تصريحه هو المشاهد الذي لا يقدر قيمة أعماله لانخفاض مستواه الثقافي أم في غياب الإنتاج؟ وهل هو قرار بالاعتزال وهو في مقدوره ألّا يعتزل؟ وهل إذا اتصل به أحد المنتجين المتحمسين لسيناريوهاته الهادفة سيرفض العرض لأنّ هذا الجمهور لا يستحق العمل من أجله؟
من المعروف أنّه لا يوجد شخص بعينه يمكن أن يتحدث باسم الجمهور، فيتخذ موقفاً واضحاً من المخرج المثقف فيقوم بالرد عليه ومواجهته، لذلك فإنّ نقد الجمهور الذين هم مجرد أشباح هلامية في ذهن المخرج أكثر أماناً من نقده للمنتجين أو لأحدهم، فأيّ نقد للمنتج يعني إعلان الحرب على من له تأثير مباشر على صناعة فيلمه المقبل الذي يتشوق له بكل تأكيد، وقد رأينا المخرج المثقف يشيد أخيراً بالسبكي، بل ينتقد من يهاجمه، إذ قال إنّ "السبكي منتج شاطر، وأشطر منتج في هذه الفترة، وأفلام السبكي تتماشى مع الجمهور ويقبل عليها... وبرافو عليه، وأنا أحترمه جداً" رغم أنّ السبكي هو المسؤول الأول، في نظر كثيرين، عن نوعية الأفلام التجارية التي شكّلت ذائقة المشاهد التي لا تعجب عبد السيد.