حكواتي: رمضان السوري.. قبل الثورة وأثناءها وبعدها

30 يونيو 2014
في رمضان تزداد وحشية النظام (مزار مطر/ فرانس برس/GETTY)
+ الخط -
 
حين يأتي الشهر الفضيل، لا أفكّر بطقوس الصوم والإفطار، ولا بالعصائر والأطباق والحلوى الشهية التي تتصدّر الموائد، ولا الدراما العربية التي تحتلّ قنوات التلفزة. بل أستعيد ذاكرتي، ويشغلني التفكير بمسار التحوّلات الاجتماعية والفكرية، التي أبصرتُها تعتري الشارع السوري في علاقته برمضان منذ قرابة نصف قرن.

في طفولتي ومراهقتي وسنوات شبابي الأولى لم أكن أشعر بمرور رمضان، بقدر ما كنت أبتهج بمجيء عطلة العيد. كانت التيارات الليبرالية والقومية واليسارية هي من يمسك بمفاتيح الفضاء العام، ويديره باتجاه الحياة المدنية. وكان الصائمون يقضون واجبهم في بيوتهم، بينما كان إشهار الإفطار تعبيرًا عن التمرّد الاجتماعي على مخلّفات الماضي. 

بعد مقتلة حماة عام 1982، بدأ نجم التيارات الإسلامية بالصعود، وبالتدريج صارت المظاهر والطقوس الدينية علامة من علامات معارضة النظام، والقطيعة مع ادّعاءاته العلمانية. وأضحت صلاة الجمعة وحلقات الدّروشة الصوفية، ودروس الدّين، هي التي تجذب معظم الشباب، والكثير من "المتمركسين" و"القومجيين"، الذين تركوا أحزابهم.

وعن طيب خاطر عادت معظم السّافرات إلى وضع الحجاب، وامتنعت معظم مرافق التسلية عن تقديم المشروبات الكحولية. وما إن حلّت أواسط تسعينيّات القرن العشرين، حتّى باتت النعرات المذهبية والطائفية بادية للعيان، وغدا رمضان طقسا اجتماعيا مقدّسا، لا يجوز خرقه في المكان العام، ولو بعذر شرعي، أو من قبل أشخاص من خارج الإسلام.

للمرّة الأولى في حياة السوريين تحت حكم "البعث" تصالح العلمانيون والمسيحيون والإسلاميون من كلّ الطوائف، وخرجوا معا من المسجد إلى ساحات التظاهر بعد صلاة الجمعة، حاملين أعلام الثورة، ومنشدين أغنياتها. معا سُجنوا وعُذّبوا في أقبية النظام، وقُتلوا برصاصه. ومعًا تعاهدوا أن يكتبوا تاريخ خلاصهم من استبداد السلطة الحاكمة في رمضان 2011.

في رمضان الأوّل بعد الثورة أُعلن الإضراب العام، وخرجت التظاهرات كلّ يوم، تنادي بالحرية من صلاة التراويح وحتّى الفجر. وللمرّة الأولى منذ عقود عادت المجاهرة بعدم الصيام لا تثير حفيظة الشارع، ولا تستدعي العزل الاجتماعي. فالذي يؤلّف ما بين القلوب هو الموقف من الثورة السورية. وموائد الإفطار جمعت الثوّار من كلّ الأديان والطوائف. وقبل أن تبلّل قطرة الماء الأولى شفاههم العطشى، كانوا يردّدون معا "اللهم أعنّا على الصيام والقيام، وإسقاط النظام"، ويبتهلون بصوت واحد "آمين يا ربّ العالمين". 

انتهى رمضان، ولم يأتِ النصر، بل زادت وحشية النظام. فابتلع السوريون غصّتهم وخيبتهم، بعد أن تأكدوا من تخلّي الجميع عنهم، وعقدوا العزم أن يحرّروا بلدهم بسواعدهم، قبل أن يحلّ رمضان آخر عليهم. وفي رمضان التالي، كانت هدية النظام إلى الصائمين أن قطع الطحين عن المناطق الثائرة، وقصفت طائراته طوابير البشر أمام الأفران، وهي تنتظر رغيف الإفطار. 

اليوم يدخل رمضان الرابع ما بعد الثورة: نصف السوريين في خيم النزوح واللجوء، بعضهم صائم منذ شهور رغمًا عن أنفه، بسبب سياسة التجويع والحصار، وبعضهم لا يجد ما يسدّ الرمق على مائدة الإفطار.

يكبر الشرخ بين العلمانيين والإسلاميين، حول موقفهم من هويّة دولة ما بعد النصر، مدنية أم إسلامية؟ وفي الأفق ترتفع الرايات السود، منذرة ببداية حرب سنية - شيعية طاحنة على مستوى المنطقة، قد لا تنتهي قبل مائة عام.  
المساهمون