لم يكن العالم الألماني آلبرت آينشتاين (1879 - 1955) ليصدّق أنّ صورةً فوتوغرافية شخصية له ستساوي أكثر من ما كسبه طوال سنوات حياته الـ 76. ولم يكن ليخطر على باله أنّ الجامعة العبرية في القدس التّي أوصى بنقل جميع ممتلكاته العلمية والفكرية إليها، بعد وفاة سكرتيرته هيلين دوكاس وابنته مارغوت آينشتاين، ستُقاضي المئات من دور النّشر والشّركات، وتُحقّق ثروات هائلة، حسب ما جاء في إحدى المقالات المنشورة حديثاً في صحيفة ذا غارديان.
بدأت القصّة في يوليو/ تموز 2003، عندما تلقّى الفيزيائي ومؤلف كتب الخيال العلمي توني روتمان رسالة إلكترونية من مُحرّره، يُحذّره ويُخبره فيها أنّ الجامعة المالكة لحقوق نشر ممتلكات آينشتاين مُستعدة لمُقاضاة روتمان، إن لم يدفع مبلغاً طائلاً لاستخدامه أكثر صور آينشتاين الطّريفة شُهرة (وهو يمدّ لسانه)، على غلاف كتابه المنشور قبل ثلاثة أسابيع من التاريخ المذكور.
عندما رحل آينشتاين، لم يكُن لمفهوم حقوق النّشر وُجود آنذاك، ولم يأت العالم الألماني على ذكر أي شيء له علاقة بالأمر في وصيّته. غير أنّ الجامعة العبرية التّي ساهم في تأسيسها عام 1918، استولت كُلّياً على ممتلكاته عام 1982، مُلوّحة بمقاضاة كل من يستخدم مادّة لها علاقة بآينشتاين؛ فعالَم حقوق النّشر والدّعاية، حينها، بدأ يصبح ساحة معركة قانونية تُساوي ملايين الدولارات.
ومنذ بداية الثمانينيات، بدأت الجامعة العبرية تُحكم قبضتها على ممتلكات آينشتاين أكثر فأكثر، وتضع لوائحَ غامضةً من المسموحات والممنوعات في استعمال صور صاحب النظرية النّسبية، ومن يحقّ له توظيفها وبأي ثمن كذلك. وكل من لم يمتثل لهذه القواعد كان يُتابع قانونياً، ومنهم بائعو قمصان تحمل صور آينشتاين وأزياء تنكرية على هيئته، وأصحاب مشاريع تجارية وجدوا أنفسهم في المحاكم، بل وصل الأمر إلى مُقاضاة أشخاص استخدموا صُوراً ظلّية له.
لم تكُن الجامعة تغفل عن أي شخص مهما كان منصبه، أو مؤسسة مهما كان نوعها، بل كانت أصابع اتّهامها تتوجّه إلى الجميع، وكان مُحاموها يَزورون بملفاتهم أبسط الباعة المُتجوّلين في الأسواق المحليّة، حتّى أكبر الشرّكات مُتعدّدة الجنسيات مثل كوكاكولا وآبل ووالت ديزني. واضطرت هذه الأخيرة، عام 2005، إلى دفع 2.66 مليون دولار للجامعة للحصول على ترخيص لمُدّة 50 عاماً لاستخدام عبارة Baby Einstein في إحدى مجموعات الألعاب للأطفال. ولم تسلم الحُكومات أيضاً من لعنة الرّسوم؛ إذ دفعت الحُكومة البريطانية مبلغاً ضخماً لم يُكشف عنه، لتتمكّن من استخدام صور آينشتاين في حملة إعلانية تلفزيونية وإلكترونية، حسب مقال "ذا غارديان".
وتعود نقطة بداية هذا الاستغلال إلى قيام المحامي الأميركي روجر ريتشمان ببعث قُصاصات إعلانية عدة للجامعة بداية ثمانينيات القرن الماضي، بعد إقرار قانون حقوق المشاهير في الولايات المُتحدة الأميركية. إذ فطن ريتشمان إلى أنّ ذلك قد يعود عليه بمنافع جمّة، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ عيّنته الجامعة وكيلها القانوني الحصري باسم آينشتاين، كما استفاد من 65 في المائة من كُلّ صفقة ترخيص، و50 في المائة من عائدات الإجراءات القانونية الرابحة ضدّ المُخالفين.
وعلى الرّغم من أنّ آينشتاين كان عالم الفيزياء صاحب الراتب الأعلى من جامعة برنستون الأميركية، إذ تقاضى راتباً بلغ 180 ألف دولار سنوياً، وحسب بعض الروايات، تساءل مُتعجّباً ذات يوم: "أليس المبلغ كبيراً؟"، فإن ما حقّقته الجامعة العبرية مُستغلّة اسمه يجعل ذاك المبلغ يبدو ضئيلاً للغاية.
ومنذ عام 2006 إلى حُدود عام 2017، ظلّ آينشتاين يظهر كُلّ عام في قائمة أكثر عشر شخصيات تاريخية تحقيقاً للرّبح المالي في مجلّة "فوربس"، فكانت الجامعة العبرية تُحقّق ما يقارب 12.5 مليون دولار سنوياً من رسوم التّرخيص. ويُعتقد أنّ الأرباح الإجمالية للجامعة من اسم آينشتاين وصلت حتى الآن إلى نحو 250 مليون دولار.
ووصف أحد أساتذة القانون الأميركيين في إحدى مقالات صحيفة نيويورك تايمز الجامعة العبرية وأمثالها بـ "لصوص القبور الجُدد"، ولقّب مُحامٍ من مجلة تايم الأميركية الوكلاء القانونيين للجامعة بـ "مجموعة من صيّادي الرّؤوس القَبليين". ويُرجِّح النّقاد أنّ آينشتاين لم يكن ليرضى بأن يُتاجر باسمه بهذا الشّكل، إذ قاوم طوال حياته كُلّ مُحاولة للاتّجار بهُويّته.
كما احتجت العشرات من الشّركات على سُلوك الجامعة العبرية، من بينها إحدى الشّركات المُصنّعة لزي آينشتاين للأطفال التّي أخبرت مُراسلاً لـ "ذا غارديان": "لا تستطيع الجامعة أن ترث حُقوق آلبرت آينشتاين، لأنّها لم تكُن موجودة أصلاً وقت وفاته". لكنّ الجامعة تدّعي بأنّها لا تملك الحقّ القانوني فقط، بل ترى أنّ من "واجبها الأخلاقي" حماية عالم الفيزياء من أولئك الذّين قد يُلوّثون اسمه.
ووفقاً لأستاذ القانون في جامعة جورج واشنطن، روجر شيشتر، فإنّ الجامعة تستغلّ غياب النّصوص القانونية المُنظّمة لمسألة حُقوق الدّعاية في ولاية نيوجيرسي، حيث تُوفيّ آينشتاين، كونها تُعتبر من بين الولايات الأميركية التّي لم تضع أي قيود قانونية بخُصوص كيفية ومدى حقّ الوريث في الاستفادة من حُقوق الدّعاية لقريب مشهور، ما يسمح للجامعة العبرية بمقاضاة كُل "مُنتهك مزعوم" إلى أجل غير مسمى.
وعودة إلى قضية الفيزيائي توني روتمان الذّي على الرّغم من اقتناعه بأن ما تفعله الجامعة غير صائب، ولا يجب أن يستمر، خُصوصاً أنّها مؤسسة من المفترض أن تكون مُكّرسة للعلم، إلّا أنّ مُحرّره أقنعه بعدم المُخاطرة بمعركة قانونية قد تُكلّفه غالياً، فذهبت صورة آينشتاين وحلت محلّها صورة لقطار مُتحرّك مع خلفية لسماء شُكّلت من سحابها المُعادلة الأكثر شهرة في العالم؛ "مُعادلة النّسبية" لصاحبها آلبرت آينشتاين.
وما تزال الجامعة العبرية تُلاحق حتّى اليوم أكثر من مائة مخالف مزعوم لعلامة آينشتاين التّجارية في ولاية إلينوي الأميركية، حيث يحمي القانون كُل ما له علاقة بشخصية عامة راحلة، بدءاً بمُقلّديهم، ووُصولاً إلى "إيماءاتهم وسُلوكياتهم" لمُدة مائة عام بعد وفاتهم. وحسب أستاذ القانون، روجر شيشتر، فإنّ ملء ولاية نيوجيرسي للثّغرة القانونية التّي تستغلّها الجامعة، وجعلها مُتطابقة لقوانين الولايات الأُخرى المُقرِّة بالحق في حيازة حقوق النّشر لمُدة 70 عاماً فقط بعد وفاة الشّخص، سيُمكّن من الدخول في معركة قضائية ضدّ الجامعة إن تمّ الأمر قبل 2025، كون آينشتاين رحل عام 1955.