خلال ثاني زيارة يقوم بها للقارة السوداء، الصيف الماضي، أعلن وزير الخارجية في الإدارة الأميركية الحالية، أنطوني بلينكن، أن "أفريقيا هي المستقبل"، إذ إنها الأكثر شباباً بين قارات الأرض، حيث يقف منتصف العمر فيها عند عتبة العشرين عاماً، فيما نسبة ستين في المئة من سكانها تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً.
ليست الولايات المتحدة وحدها. قد سبقتها الصين وروسيا، وأخيراً، يحاول الاتحاد الأوروبي بدوره اللحاق بالركب. عين الدول العظمى على فرص الاستثمار في المكامن الجيوسياسية والموارد البشرية والطبيعية لبقعة من العالم، ظلّت لقرن من الزمان لا تُقدّم في وسائل الإعلام سوى عبر مشاهد بائسة، من فقر وجوع وأوبئة وحروب إقليمية ومحلية طاحنة.
أما اليوم، فإن حدثاً فنياً كـ"أفريما" (Afrima)، أي "جوائز لكل أفريقيا" (All Africa Music Awards)، وهو حفل توزيع جوائز غنائية موسيقية يتسابق عليها نجوم وفرق من جميع الدول الأفريقية، أصبح حدثاً عالمياً، له أن يتصدّر عناوين الأخبار الثقافية، ويشغل بال النقاد والمتابعين، بتتبع أبرز التيارات والتقليعات، التي باتت تؤثر بعموم المشهد الموسيقي والصناعة الفنية على مدار الكوكب.
منذ عام 2013، تُنظم مراسم حفل توزيع الجوائز بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الأفريقي. هكذا، استضافت العاصمة السينغالية، داكار، النسخة الثامنة بين الثاني عشر والخامس عشر من الشهر الحالي. كان عضو لجنة التحكيم عن دولة جنوب أفريقيا، آدام تيران، قد أشار إلى أن ما يزيد على 900 مشاركة قبلتها هيئة اللجنة، وهو الرقم الأعلى منذ تاريخ البدء بتنظيم الحدث. بهذا، ومن خلال تمثيل دقيقٍ وجامعٍ لكل الأقاليم الجغرافية، يكون قد رُصد جميع بؤر الصناعة الموسيقية الراهنة حول القارة.
نيجيريا، البلد الأقوى سياسياً واقتصادياً من بين دول غرب أفريقيا، وواحد من أهم مصدّري الثروة النفطية في العالم، كانت قد حققت فوزاً كبيراً من خلال هيمنة نجومها على فئات الجوائز. منهم بورنا بوي (Burna Boy)، الذي على الرغم من غيابه عن مراسم الحفل، فقد حظي بجائزة ألبوم العام Love Demini، الذي سبق له أن فاز أيضاً بجائزة غرامي. فيه، يجتمع مجمل العناصر المميزة للموسيقى الأفريقية الجماهيرية الدارجة في الوقت الراهن، من Afrobeat؛ أي الإيقاعات الأفريقية، إلى المستوردات الأفروأميركية الشائعة، كالراب وR&B.
بالبقاء غرباً ومن ساحل العاج، التي كثيراً ما يُشار إليها كإحدى القوى الصناعية الأفريقية الكبرى، أهمّ مصدّرٍ للكاكاو في العالم ومن أبرز مصدّري القهوة والكاشو، فاز ديدا بي (Dida B) بجائزة أفضل أغنية عن "تالا" (Tala). الأغنية مُنتجٌ جماهيري فرانكو أفريقي بامتياز، على إيقاع الأفروبيت. يُردد عنوان الأغنية بتواتر مينيمالي مستمر، فيما يستوحي تصميم الرقصات وأجواء مقطع الفيديو من إيماءات ورقصات ناظمي الراب الأميركيين من السود.
أما شرق القارة، فقد جذب الأنظار إليه من خلال صعود النجم الفريد كاساماسه (Kassmasse) من إثيوبيا، التي تعد ثاني دولة أفريقية من حيث تعداد السكان، وأخذت تبرز كقوة إقليمية ضمن القرن الأفريقي. قد مُنح كاساماسه جائزة "أفضل فنان شرق أفريقي"، ويُعرف عن ابن العاصمة أديس أبابا قدرته على مزج العناصر الثقافية المحلية سحيقة القدم، شديدة التلوّن عبر وسائط خلاقة تواكب الإنتاجات العالمية المعاصرة، لجهة استخدامه المؤثرات الإلكترونية في كل من الشكل والمعالجة، مع الحفاظ على الراب، بوصفه وسيلة تعبير معولمة.
من الكاميرون، وسط القارة، فازت الفنانة ASABA عن أغنيتها Mon Bebe باللغة الفرنسية. لآسابا كاريزما خاصة وحنجرة واسعة الطيف، تمكنها من الإبقاء على النمط التقليدي الأقل جدّة للأغنية الجماهيرية، من دون أن تعدم المقدرة على التأثير بالجمهور.
عن جنوب أفريقيا، البلد الأفريقي المؤثر بتاريخه السياسي، الزاخر بالوقود الأحفوري، ومن بلدة سويتو في مدينة جوهانسبرغ، فازت النجمة كامو مفيلا (Kamo Mphela) عن أغنيتها "شبح" (Ghost) التي خصتها شبكة WDR الإعلامية الألمانية من بين خمس أغان يجدر بالعالم اليوم الاستماع إليها، ولعلها مصيبة في ذلك، إذ تتميز Ghost بفرادة كل من الطرح والمعالجة، فيما تعتمد جنساً موسيقياً متفرعاً يدعى آمابيانو Amapiano، ظهر في جنوب أفريقيا مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي، ويمزج بين الجاز والنبض الإيقاعي الرتيب المُطعّم بمركِّبات الأصوات الإلكترونية؛ السنثسايزر.
هيمن كل من المغرب ومصر شماليّ القارة على جوائز العام. بالإضافة إلى حضور كل من تونس والجزائر، أتت ثمانية جوائز من نصيب المغرب، فازت بها فنانات، مثل فوزية عن أغنية "ارقد بسلام يا حب" (RIP love) التي غنتها بالإنكليزية وتجلت فيها بعض خصائص اللاتينو، الناتج من تلاقح الأثر الأفريقي بالجنوب أميركي، فضلاً عن قرب المغرب من الأندلس.
تتشابه أغنية جيلان الفائزة، وتحمل عنوان "نعم، نعم" (Oui Oui) مع أغنية مواطنتها فوزية، سوى أنها تناهت أكثر أفريقيةً، بان فيها الطابع المغاربي، واستخدمت اللغة العربية. كذلك فازت من مصر أغنية "متخفيش يامّا" لعلي لوكا، بلون التراب Trap، أو الراب الغنائي، وأغنية "نمت ننه" للمغنية روبي، التي لا تتعدى أن تكون نموذجاً للأغنية المصرية الخفيفة والدارجة.
تترافق نسخة جوائز "أفريما" هذا العام، ليس فقط مع تنامي الأهمية الأفريقية على الساحة الدولية، بل أيضاً تزايد الحضور الموسيقي لأفريقيا حول العالم. بحسب موقع The Africa Report، تعدّ 2022 "سنة خير" على الموسيقى الأفريقية. إذ باتت إيقاعات الأفروبيت والآمابيانو تسمع في معظم المراقص الغربية. وتلعب منصة تك توك أيضاً دوراً حيوياً في نشر الموسيقى الأفريقية الجماهيرية، سواء على صعيد القارة أو بعيداً عنها.
فمن منا في الماضي القريب، وهو يكرّ بإصبعه على وابل توصيات "يوتيوب"، لم يتوقف عند مقطع الفيديو المصور لأغنية النيجيري ريما (Rema)، التي تحمل عنوان "اهدأ" (Calm Down). تلك الأغنية، متناهية البساطة، المينيماليّة والمبهجة، اكتسحت مسامع الناس، واحتلت لوائح اللعب الأكثر رواجاً في مختلف المرافق الليلية حول العالم.
الغرابة هنا لا تكمن في صعود نجم الموسيقى الأفريقية، المترافق مع تصاعد الاهتمام الدولي بالقارة الأكثر شباباً والأغنى من ناحية الموارد، بل تكمن في أن يكون ذلك الأمر مستغرباً؛ لو تمّعن المرء في أصول الموسيقى الجماهيرية الغربية وجذورها لجهة الإيقاع والأنغام والأداء، منذ خمسينيات القرن الماضي، لوجد أن معظمها منشأه أفريقي.