حصاد الموسيقى... طيف الوباء يظلّل المشهد

27 ديسمبر 2021
شهد هذا العام رحيل الفنان السوري صباح فخري (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن أحد يرغب في أن يحمل حصاد الموسيقى هذا العام أيضاً عنوان فيروس كورونا. اليوم وعلى أعتاب الاحتفال برأس السنة، تسمع بتوجس أنباء الموجة الخامسة للوباء، وهي تتصدر كل شاشة وصفحة ورقية أو إلكترونية. متحور جديد، وخوف متجدد من إجراءات حجر وإغلاق، وجدل مستمر حول الشروع في تقديم المزيد من جرعات اللقاح التعزيزية، حيث ستبدأ بعض البلدان حملة تطعيم رابعة. غياب الاستقرار وغموض المستقبل انعكس على المشهد الموسيقي هذا العام، سواء بالإنتاجات القليلة أو بالحفلات التي لم تستعد زخمها.

الشهر الماضي وبعد ست سنوات من الانتظار، أصدرت المُغنية البريطانية أديل ألبومها المعنون "30"، وقد تصدّر لائحة بيلبورد للإصدارات الموسيقية طيلة شهر ديسمبر/كانون الأول. أما بيونسيه، نجمة البوب الأشهر، فقد حازت جائزة أفضل أداء لفئة الـ"آر أند بي" في النسخة 63 من جوائز "غرامي"، وذلك عن أغنية Black Parade. بهذا الفوز، تكون الفنانة الأفرو-أميركية الأكثر تتويجاً بجوائز "غرامي" على مرّ التاريخ مع 27 فوزاً.

كذلك استُقبلت عودة الفرقة السويدية الأسطورية "آبا" ABBA كما لو أنها خبر هبوط طبق فضائي آتٍ من إحدى المجرات البعيدة. الألبوم الذي صدر للفرقة نهاية الشهر الماضي بعنوان Voyage تضمّن عشر أغنيات، من بينها واحدة مخصصة لعيد الميلاد. فضلاً عن التوقيت الذي استهدف تحقيق مزيد من المبيعات لشهر واحد قُبيل موسم الاحتفالات، فإن الأغنية إنما تُمثّل أيضاً توجه الفرقة نحو جمهور يافع، يتألف من أحفاد أولئك من كانوا يوماً عُشّاقاً ومُريدين.

من جهتها، جعلت النجمة الأميركية بيلي أيليش من محنة الوباء مصدر إلهامٍ، تمخّض عنه ألبومها Happier Than Ever. وقد اضطلع أخوها فينيس بمهمة الإنتاج. أُصدر العمل بالتعاون بين شركتي "دارك روم" و"إنترسكوب". وشكل المحتوى الموسيقي ابتعاداً عن إيقاعات الهيب هوب التي ميّزت إنتاجاتها السابقة، واقتراباً من أجواء إلكترونية تأملية حيناً، وبلون البلوز أحياناً أخرى، تعكس روحاً ميلانكولية. تتناهى عبر الأغاني دعوات مفتوحة للتفكّر إزاء الوضع الراهن في غمار الأوبئة، وكيف تفاقمت العزلة وتعمّق الاغتراب.

على صعيد الموسيقى الكلاسيكية، شهد مسرح أوبرا ميتروبوليتان المرموق في مدينة نيويورك الأميركية، الذي يمتد تاريخه لأكثر من 130 عاماً، إنتاج أول أوبرا يؤلفها موسيقيّ أسود البشرة. إذ كُلّف المؤلف تيرينس بلانشارد بتلحين نص أعده الكاتب كاسي ليمونز، استند فيه على مذكرات تشارلز إم بلو، التي يروي من خلالها رحلة الحياة الملحمية في اجتياز الصدمات والنهوض عقب الإخفاقات. وقاد الفرقة الأميركية نيزيت سيغوين؛ حيث جرى تقديم العرض الأول، نهاية شهر سبتمبر/أيلول.

في عالم الجاز، أبصر مشروع التعاون الموسيقي بين المنُتِج سام شيبرد وأيقونة الجاز الأميركي فاروها ساندرز النور، وذلك مع إصدار ألبوم Promises رفقة أوركسترا لندن السيمفونية. ابتعد الألبوم من ناحية الشكل عن قائمة الفقرات (Tracks) واعتمد بدلاً منها حركات تمتد كالدفق المتصل، اقترب خلالها من المشهديات الصوتية Soundscape، إضافة إلى الشحنة العاطفية التي يتمتع بها أداء ساندرز.

عربياً، وفي مصر على وجه الخصوص، لا تزال الحملة الشعواء التي تشنّها نقابة المهن الموسيقية المصرية على لون الغناء الشعبي، تؤجج الجدل في الفضاء العام. قائمة طويلة صدرت عن النقابة شهرَ نوفمبر/تشرين الثاني، ضمت أسماء فرق ومُغنين شعبيين ممنوعين من العمل. حتى أنها طالبت منصة "يوتيوب" بمنع تداول أغاني مَن تصدّرت أسماؤهم لائحة الحظر. بين وجهة نظر رئيس النقابة المُطرب المصري هاني شاكر التي ترى المنع وسيلة للارتقاء بالذائقة الفنية، وبين وجهة نظر مقابلة ترى أن لا أحد يجدر به أن يفرض على الناس ذائقة فنية دون غيرها، لا يزال الجدل مستمراً.

جنوباً، ودّع السودان، أول الشهر الحالي، أيقونته الغنائية عبد الكريم الكابلي. يُعد المغني والباحث وكاتب القصائد من قامات الغناء في البلد الأفريقي ذي الثقافات المتعددة والمتنوعة. بدأ ابن بورتسودان على البحر الأحمر في الغناء منذ سن الثامنة عشرة. حيث مثل ظهوره أمام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، حين غنى أنشودة "آسيا وأفريقية" نقطة انطلاقة على مسار مشوار فني زاخر، ساهم عبره في إحياء الفولكلور السوداني وصيانته، وتعريفه إلى الجمهور المحلي والعربي.

رحيل آخر قد ألمّ بالشام؛ فقد توفي هذا العام أيقونة الغناء الحلبي، المطرب السوري صباح فخري، عن 88 عاماً. كان فخري سفير الطرب الحلبي إلى العالم. حمل معه فنون القدود والموشحات التي يعود تاريخها إلى أكثر من ستة قرون. تميّز بموهبة موسيقية فطرية استثنائية، وبصوت يجمع بين القوة والنقاء، إضافة إلى بنية ذهنية وجسمية مكّنته من الغناء لساعات طويلة من دون توقف. ظلت أغانيه على مر العقود الأربعة الأخيرة، خبز السوريين اليومي، على أثير الإذاعة أو من على شاشة التلفزيون.

على مدى سنة ونصف ووباء كورونا، بموجاته المتتابعة ومتحوراته المتوالية، لا يزال يؤثر على الحياة في كوكب الأرض، وعلى الحياة الفنية والموسيقية بوجهٍ أخص. أنماط جديدة من الإنتاج الفني، وأشكالٌ مبتكرة من وحي التباعد، بغية التقارب مع الجمهور عبر الإنترنت، لم تعد تقتصر على وصفها حلولاً مؤقتة، أو مجرد استثناءات ريثما تعود الحياة إلى الوضع الطبيعي، وإنما صار يُنظر إليها بكونها بدائل عملية أو خيارات إضافية، إزاء وضع بات فيه الإلغاء والإغلاق هو السائد والطبيعي. الخوف من خطر جائحة جديدة أو حتى فيروس جديد، بات يتطلب من المبدع والمتلقي إعادة تخيّل المستقبل بصورة مختلفة، يغلب فيها الأمن والأمان الصحي والاقتصادي والاجتماعي، على القيمة الجمالية، المتعة الجماعية والحرية الفردية.

المساهمون