رافقت الصراع المستمر منذ ثماني سنوات في شرق أوكرانيا بين الانفصاليين المدعومين من روسيا والقوات الأوكرانية، معركة تضليل إعلامي شرسة بين موسكو وكييف، تحاول كل جهة من خلالها توريط الطرف الآخر في جرائم خطرة.
يقف مراسل تلفزيوني روسي مرتدياً سترة واقية من الرصاص ومعتمرًا خوذة قرب ثكنة جيش في يوم مشمس. يسأله صوت من وراء الكاميرا "هل أنت جاهز؟" يومئ الصحافي برأسه ويبدأ الركض والصراخ، بعد سماع أزيز طلقات نارية، ويقول عبر المايكروفون الذي يحمله إن "مجموعة من المخربين" يهاجمون موقعاً تدعمه روسيا في شرق أوكرانيا... هو تقرير يقول ناشروه على تلغرام إنه "كواليس الدعاية الروسية".
لكن حجم هذه المعركة ونطاقها وصلا إلى مستويات قياسية، فيما تحتشد القوات الروسية عند حدود أوكرانيا ويحذّر الغرب من غزو وشيك. وتزداد أهميتها مع مخاوف من أن يستخدم الكرملين هجومًا مفتعلاً ذريعة لتنفيذ غزوه الذي يخشاه الغرب.
وقال وزير التعليم الأوكراني السابق ومدير مدرسة موهيلا للصحافة، سيرغي كفيت "أرى أن معظم هذه الأخبار المضللة تستهدف في معظمها الجمهور الروسي الدولي". وأضاف لوكالة فرانس برس "يبدو أنهم يحضّرون غزوا".
وساهم تطور التكنولوجيا والأدوات المتاحة في العقد الماضي، في كشف زيف عدد من التقارير التي كان يمكن أن تمر على أنها صادقة وأصيلة. فعلى سبيل المثال، كشفت أن النداء العاجل الذي أطلقه قادة أوكرانيون انفصاليون للسكان المحليين بالذهاب إلى روسيا الجمعة الماضي، لم يكن عاجلا بل سجّل قبل يومين من ذلك.
وقال زعيم الانفصاليين في دونيتسك، دينيس بوشيلين، في رسالته عبر الفيديو "سيصدر رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، قريبا أمرا لقواته بتنفيذ الهجوم". وأضاف "لذلك نقوم اليوم، في 18 شباط/فبراير، بتنظيم عملية إجلاء واسعة النطاق للسكان المدنيين إلى روسيا".
وأظهرت البيانية الوصفية (ميتاداتا) لتلغرام أنه جرى تحميل رسالة بوشيلين ورسالة زعيم انفصالي آخر في 16 شباط/فبراير، وهو واحد من الأيام التي قالت واشنطن إنها قد تكون موعد الغزو الروسي.
وغرّد الصحافي الاستقصائي مارك كروتوف، مع انتشار مخاوف من أن المتمردين كانوا ينقلون الناس حتى تتمكن الدبابات الروسية من الدخول "كل ما يحدث اليوم تم تدبيره بشكل واضح ومن دون أدنى شك".
وكان محللون من مجموعات مختلفة مثل موقع "بيلينغكات" الاستقصائي الحائز العديد من الجوائز والذي صنّفه الكرملين على أنه "عميل أجنبي" العام الماضي، منشغلين جداً في الأسابيع القليلة الماضية. فقد اكتشف "بيلينغكات" وغيره من المواقع التي تحارب التضليل الإعلامي، أدلة مرئية تظهر أن سيارة مفخخة قيل إنها استهدفت قائد شرطة انفصاليا، كانت مزروعة في مركبة مختلفة تماما. وعرض الموقع الإلكتروني صورًا للوحة تسجيل سيارة قائد الشرطة على سيارة رباعية الدفع من طراز جديد. ثم بدت اللوحة نفسها مثبتة على بقايا مركبة عسكرية خضراء قديمة فجّرت في موقف سيارات خال الجمعة الماضي.
لم يصب أحد بأذى، لكن التلفزيون الروسي الرسمي بث ما قال إنه اعتراف "جاسوس أوكراني" ضالع في مؤامرة التفجير المزعومة. وأفادت روايات أخرى بأن انفصاليين قتلوا أوكرانيَين حاولا تفجير خزان كلور، وهي رواية رددت صدى مزاعم موسكو بأن كييف كانت تخطط لهجوم بأسلحة كيميائية.
ومن الجانب الأوكراني، لا تستثنى وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية من حرب المعلومات هذه. وأشارت منظمة "ستوبفايك" المستقلة في كييف إلى بعض الحسابات التي تنشر أخبارا حول احتجاج كبير مناهض للحرب في موسكو باستخدام صور لتجمع حدث في الواقع عام 2014.
وقالت عالمة النفس كاترينا غولتسبرغ إن هذا التراشق الإعلامي اللامتناهي تسبب في ارتفاع مستويات القلق لدى الأوكرانيين. وأضافت "خلال الشهرين الماضيين، كانت مستويات الهلع مرتفعة للغاية. من المرجح أن ذلك مرتبط بهجمات معلوماتية أكبر". وتابعت "الناس قلقون جدا. إنهم قلقون على أنفسهم وعلى أطفالهم وعلى أحبائهم".
وقدمت كاترينا كيسليوفا، وهي رئيسة تحرير صحيفة أوكرانية، مثالاً على ذلك، قائلة إن عائلتها جهّزت "حقائب ظهر للطوارئ" ووضعت خطة واضحة في حال اندلاع الحرب.
وأوضحت خلال حضورها مراسم أقيمت لإحياء ذكرى أكثر من 100 شخص قتلوا في كييف خلال الثورة الأوكرانية المؤيدة للاتحاد الأوروبي عام 2014 "تحدثت إلى الأطفال حول ما يجب عليهم القيام به". وأضافت "الآن أريد أن أتأكد من أن سرداب مدرستهم جاهز للطوارئ".
ويخشى آخرون أن يخيّم هذا الشعور بالخطر الوشيك على أوكرانيا لبعض الوقت. وكتبت صحيفة "أوكرانسكا برافدا"، "تهديد وجودي علينا أن نتعايش معه في الأشهر المقبلة، إن لم يكن في السنوات المقبلة".
(فرانس برس)