"حدود بلا نهاية": تنويعات على النوع السينمائي تفيض جمالاً

27 مارس 2023
"حدود بلا نهاية": مغامرة وتشويق في سيناريو متعدّد المستويات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يعالج المخرج الإيراني عباس أميني (1982) الأفكار المقترحة في سيناريو حسين فاروخزاده لفيلم "حدود بلا نهاية" (2023) بأسلوبٍ تتداخل فيه الأنواع السينمائية، توافقاً مع تعقيداتها وتشابكها مع مشكلات سياسية وعرقية وثقافية، يجد أبطالها أنفسهم فيها موزّعين بين تناقضات وصراعات، تفرضها عليهم ثقافة المكان الذي يوجدون فيه، ولا منفذ لهم للخروج منه إلاّ بالتورّط فيها.

ورطةُ بطله، المعلّم أحمد (بوريا رحيمي سام)، مُتأتية من كونه منفياً في منطقة جغرافية تقع بين إيران وأفغانستان، تشهد، بعد وصول "طالبان" إلى الحكم، نزوحاً من الهاربين منهم إلى داخل إيران.

مساعدة معلّم القرية الإيرانية، وغالبيتها من "البلوش"، للنازحين الأفغان، وتأمين مكان لهم، بعيداً عن أنظار دوريات شرطة الحدود، إلى حين توفّر الفرصة المناسبة لنقلهم إلى العاصمة طهران، ومن هناك إلى الحدود التركية، وبروز قصّة حبّ ابن زعيم القبيلة البلوشية الشاب بلاج (حامد عليبور) لحسيبة (بيهفريد غافريان)، الصبية الأفغانية، المتزوّجة من رجلٍ عجوز مريض على حافة الموت، من بين ثناياها، تجعلها ظاهراً ميلودراما عادية، لكنّها تتداخل سريعاً مع تعقيدات درامية أعمق منها، مدلولاتها الأخلاقية والقيمية تدفع النص السينمائي إلى البحث أكثر في مفهوم الحدود القائمة بين البشر والجغرافيات، من منظور فلسفي، يربط بين سلوك الفرد والجماعة، وتشكّل هوياتها الثقافية والأخلاقية، والتمسّك بها طويلاً، إلى درجة تبدو أنّ تلك الحدود لا نهاية لها.

البؤرة المركزية في المشهد العام، المنطلق منه مسار "حدود بلا نهاية"، الفائز بجائزة أفضل فيلم في "مسابقة الشاشة الكبيرة" في الدورة الـ52 (25 يناير/كانون الثاني ـ 5 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، تتمحور حول المجموعة الهاربة من "طالبان"، التي يُحال سبب هروبها إلى رفض ومعاندة نهج سياسي محافظ. المفارقة، الكامنة في المشهد الحاصل بعد افتضاح علاقة العاشِقَين، تُبيّن توافقاً ضمنياً بين طرفي الحدود حين يتعلّق الأمر بمفهوم الشرف والدفاع عنه. الجهتان، "طالبان" والهاربون منها، تتّفقان على فكرة قتل حسيبة، والمعلّم يعارضها، تصالحاً مع أفكاره المتحرّرة، التي تدفعه إلى خوض مغامرة تخليص العاشِقَين من ورطتهما، كأنّه يُخَلّص بها حبّه لزوجته نيلوفار (مينو شريف) من انهياره الوشيك.

وجوده في مركز الأحداث، منفياً في إقامة إجبارية، عليه تثبيت وجوده بالحضور والتوقيع أسبوعياً في مركز للشرطة، لا يبوح النصُّ بأسبابها صراحةً. لكنّ السياق الدرامي يؤشّر إلى دوافع سياسية، ومواقف معارضة للسلطة، أوصلته إلى القرية الحدودية، كما أدخلت زوجته إلى السجن، معالجتُها سينمائياً تتطلّب تراجعاً عن أسلوب السرد الميلودرامي، واستبداله بآخر أعمق، يقارب المشهد الإيراني، ويتقارب في مساره مع رغبة الهاربين إليها من الخارج مع المنفيين داخلها، للرحيل بعيداً عنها.

 

 

ينفتح السيناريو، متعدّد المستويات، الذي تَعَلم عباس أميني التعامل معه لطول التجربة التي جمعته بكاتبه في أفلامٍ سابقة، كـ"هندي وهرمز" (2018) والمزارع" (2020) و"أنا هنا" (2020)، على معالجة إخراجية تحيط بالمشهد الحاصل عند الحدود، وتقبل توسيع قوسه، باشتغال سينمائي بارع، ينتمي إلى المدرسة الإيرانية، وأسلوبها البسيط، العميق والجميل في آنٍ واحد.

بانتقاله مع العاشِقَين الهاربين إلى طهران، ومقابلة زوجته بعد طول انقطاع، ينقل البطل الفردي معه الاشتغال السينمائي إلى مستوى آخر، تنشط الكاميرا المتحرّكة فيه، لتنقل التوتّر الحاصل في العملية السرّية لتهريبهما إلى الحدود التركية. المكاشفة بين الزوجين تقرّبهما ثانيةً، وتكسر جموداً كاد يُفشّل زواجهما. وجدت في موقفه من الشابين، ومساعدته لهما، ما يشجّع على العودة/التراجع قليلاً عن فكرة البقاء في البلد، طالما أنّه لم يعد يستطيع البقاء منفياً فيه إلى الأبد. فترة سجنها للأسباب نفسها التي أدّت إلى نفي زوجها إلى الأطراف البعيدة، سهّلت قبولها فكرة الهجرة معه، ووجدت في الشابين ما يذكّرها بشبابها وحماستها للتمسّك بحبّها.

يخلط عباس أميني، في الجزء الأخير من زمن فيلمه (إنتاج مشترك إيراني تشيكي)، ونوعه القريب من أفلام المغامرة والتشويق، الخوف بالشجاعة، والتردّد بالإقدام، تاركاً للتصوير (سامان لطيفيان) أخذ فرصته لإظهار كلّ تلك الاختلاطات في المشاعر والمواقف، التي تتجسّد في اللحظة التي كان عليهما فيها عبور النهر العميق. تنجح المجموعة المتسلّلة في عبوره، لكنّ الزوج يكتشف غياب زوجته بين الواصلين إلى الطرف الآخر منه. يعود ثانية، باحثاً عنها في المسار نفسه، ليجدها واقفة كأنّها كانت في انتظاره. تظلّ الكاميرا مُثبّتة عدستها عليهما، لتترك للمُشاهد الفسحة المطلوبة للتفكير، بينما سيتابع وقفتهما تلك، وربما سيتخيّل بنفسه خطوتهما التالية.

المساهمون