استمع إلى الملخص
- ساينفيلد استغل الحادثة للسخرية من فكرة مناقشة القضايا السياسية في عروض الكوميديا، متجاهلاً الانتقادات الموجهة إليه ومحاولاً تصوير الاحتجاج كمحاولة لإسكات الأصوات المعارضة للسياسات الإسرائيلية.
- الحادثة تبرز الانقسام في الآراء حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتحديات المدافعين عن الحقوق الفلسطينية في إيصال رسائلهم في ظل اتهامات معاداة السامية، مما يثير تساؤلات حول دور الفن والسياسة والمنصات المناسبة للحوار.
وقف أحد الحاضرين بين الجمهور في سيدني الأسترالية، وقاطع نكتة للكوميدي الأميركي جيري ساينفيلد، أثناء عرض يقيمه هناك. صرخ الشخص: "من البحر إلى النهر، فلسطين حرّة". الحادثة التي وثّقتها وأدانتها الجمعية الأسترالية لليهود تكشف مقدار السخط ومعاداة الحق الفلسطيني، إذ اتهمت الجمعية الشخص فوراً بمعاداة السامية، لكن الأهم هو رد فعل جيري ساينفيلد، الساخر، في ذات الوقت، الذي يكشف سذاجة وإصراراً أعمى على تجاهل الاحتلال، والإبادة التي يمارسها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
أمام أكثر من 15 ألف شخص، نعت ساينفيلد من ردّد الشعار بـ"الأحمق". ولا مشكلة في هذا، فالتعامل مع من يقاطعون الكوميديين هذا هو شكله، لينعته بعدها ساخراً بـ"العبقري"، وبأنه "وجد حلاً لمشكلة الشرق الأوسط". لكن المشكلة أن الجمهور لم يتفاعل، بل وسخر ساينفيلد من ذلك قائلاً إن الحل هو بـ"مهاجمة الكوميديين اليهود"، وهنا مرة أخرى التلاعب بالحقيقة، المشكلة مع الصهاينة وليست مع اليهود، لكن هذا أثر البروباغندا والإيمان الأعمى الذي يدمج الاثنين، واللجوء كلّ مرّة إلى حجّة وخديعة "معاداة السامية" لإسكات أي شخص ينتقد ويدين دولة الاحتلال ويتحدّث عن جرائمها التي تمارسها منذ عام 1948.
أضاف ساينفيلد أن الشخص اختار المكان الخطأ لفتح حوار سياسي، لكن ما هو المكان الصحيح؟ الجامعة والشارع وحفلات توزيع جوائز أوسكار وجوائز أيمي كلها شهدت انتصاراً للحق الفلسطيني، فلماذا يبدو العرض الكوميدي مكاناً غير مناسب؟ خصوصاً أن ساينفيلد نفسه لا يخفي دعمه لجيش الاحتلال ويتصور مع الاسلحة، ويزور المستوطنات. ألا يكفي هذا للوقوف في وجهه ومقاطعة عرضه؟
إلى جانب ذلك، سخر ساينفيلد من فكرة أن مهاجمة "الكوميديين اليهود" ليست الحلّ. لكن، ألم يقدم كوميديون كثر عروضاً لجيش الاحتلال الإسرائيلي في ثكنات للترفيه والتخفيف عنه؟ لكن التخفيف عمّاذا بدقة؟ عن الجهد المبذول لإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟ يعكس رد ساينفيلد إصراراً على تجاهل ما يحصل، ومحاولة للتملص من تقديم أي تعاطف أو أي كلمة لصالح الحق الفلسطيني، وهذا مفهوم، لكن لماذا بقي الجمهور صامتاً؟
قارن ساينفيلد لاحقاً ما يحصل في فلسطين بمشكلة السكان الأصليين في كندا، ساخراً بأن الحل لو كان بمقاطعة الكوميديين، فسيذهب إلى نيويورك لمقاطعة عرض للأسترالي جيم جيفريز، لكن من يقصد بدقة بالسكان الأصليين؛ الفلسطينيين أم اليهود؟ الواضح أنه يقصد الفلسطينيين، وما يتعرضون إليه من "مشكلات" كما السكان الأصليين. لكن للمفارقة، هذه المقارنة بالذات لا تصب في صالح ساينفيلد، لأننا في كلا الحالتين أمام مستعمرين بيض، يقتلون ويبيدون السكان الأصليين من دون أي رادع، ثم يستعمرون الأرض ويستوطنونها طاردين منها سكانها، ويقتلون من يطالب بحقّه بهذه الأرض.
سبق أن قاطع أنصار الحق الفلسطيني عروض ساينفيلد، كما خرج العديدون من حفل التخرج في جامعة ديوك احتجاجاً على استضافته، إذ لم يبدِ أي تعاطف إنساني مع ما يشهده الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهذا بالضبط الإشكالي؛ كيف يمكن لكوميدي لا يأخذ العالم على محمل الجدّ أن يؤمن بنبوءات دينيّة تحرك جيشاً يهدف إلى إبادة شعب كامل؟ هذا السؤال يكشف لنا عن طبيعة التفكير الصهيوني، والتعامل المقصود ليس مع التاريخ فحسب، بل مع الحاضر نفسه، ووقوع آلاف الشهداء والجرحى ضحايا لهذه الإبادة، كل هذا تحت حجة "هذه حرب، وفي الحرب ضحايا".
اللافت أيضاً هو الجمهور نفسه الذي وقف إلى جانب ساينفيلد وردّد اسمه عالياً بينما يطرد رجال الأمن من هتف بشعار "من البحر إلى النهر". وهنا نتساءل: ألا يوجد بين 15 ألف شخص من شاهد على الأقل صورة واحدة على فظائع الجيش الإسرائيلي لينتصر للشخص المطرود؟ هل العمى شديد لهذه الدرجة؟