تستعد دول المغرب العربي، للحظة إضافة طبق الكسكس إلى قائمة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية. هذه الممارسة التي أطلقتها "اليونيسكو" عام 2003، أًصبحت واحدة من أساليب بناء العلاقات الدبلوماسية عبر الطعام، وفي ذات الوقت، استعراضاً لسطوة الدول السياسية وقدرتها على استعراض هويتها على الساحة العالميَّة. المفترَض أن يُضاف الكسكس في منتصف الشهر المقبل، وخصوصاً أن هذا التصنيف يروج للسياحة، ويرسم هوية البلد عبر الذوق والطعم، ما يعزز الجدل، ودفاع كل بلد عن أطباقه ومحاولة الترويج لخصوصيتها. يعود الطبق في أصله إلى الثقافة الأمازيغيّة أو البربرية حسب التعبير الفرنسي. الهوية التي لا تزالُ تحاول نيل استقلالها، وإثبات اختلافها بعد التعريب الذي شهده شمال أفريقيا. ومع ظهور الدول الوطنيّة، بدأت المنافسة في دول المغرب العربي على ملكية هذا الطبق، أي بين المغرب والجزائر وتونس. أيها يمتلك الكسكس؟
اشتدت المنافسة عام 2018 حين صرّح أحمد أويحي، رئيس الوزراء الجزائري حينها الذي اغتاظ من محاولة المغرب امتلاك الطبق وتسجيله لدى اليونيسكو باسمها، فصرّح قائلاً في الخارج بأنَّ "هناك دولة شقيقة وجارة جعلت من الكسكس منتَجاً خاصاً بها، لذا أطلب منكم أن تثبتوا أنفسكم وأن تبرهنوا العكس"، ما أشعل ما سمته الصحف "حرب الكسكس"، إذ اشتغل بها باحثون في مختلف القطاعات الثقافية من أجل إيجاد أصل هذا الطبق.
هذا الاختلاف في الرأي، وربما الإجماع، قد ينتهي بتسجيل الكسكس باسم الدول الثلاث. لكن هل هذا يعني أن اليونيسكو مؤسسة مسؤولة عن منح صكوك الملكية الثقافيّة؟ هذا السؤال مطروح لأن هناك أطباقاً مشابهة له قد تدخل المنافسة من مداخل أخرى، كطبق الـ"تيري" السنيغالي، ما أشعل وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن هذا الطبق فاز ضمن مسابقة أفضل طبق كسكس عام 2019 في إيطاليا، لكن بالرغم من اختلاف المكونات، في السنيغال ينعتون الكسكس بـ"التيري".
هذا الاختلاف يرتبط بمكون القمح واستبداله بالبرغل في بعض الدول، ففي الكاميرون الكسكس الجزائري يختلف عن الكسكس المحلي، ما يعني وجود كسكس كاميروني مصنوع من الدقيق، فضلاً عن الاختلاف في شكل الطبق الذي يقدم فيه. الصراع على صكّ الاعتراف بأصل الطعام حاضر أيضاً في الشرق الأوسط. إذ تحاول دولة الاحتلال الهيمنة على أطباق مثل التبولة والمسبحة والفلافل. يبدو الموضوع للبعض تافهاً، أو لا يستحق الجدل، لكن الحمية الوطنيّة المرافقة لهذه الصراعات تشابه تلك التي نراها حين نشاهد المباريات الرياضية مثلاً، أو حين نحاول تحديد ملكية عمل فنّي كالموناليزا مثلاً، إذ إنَّ رسامها إيطالي سكن فرنسا، وهي في متحف فرنسي، فلمن تعود ملكيتها؟
هذه الملكية أو "الحروب الدبلوماسيّة على الطعام" ترتبط بالهوية الوطنية، وكيفية ضبط عناصرها من أجل التمايز والاختلاف عن الآخر. لكن الإشكالي، أن المؤسسة التي تمنحُ الصكّ بالتمايز هي الأمم المتحدة، والتي توجه إليها الكثير من الانتقادات بسبب تاريخها وتقصيرها الحالي في الصراعات المختلفة التي يشهدها العالم. فانتظار الاعتراف من هذه المؤسسة قد يحوّل الطبق والتقليد الشعبي بتنوعاته واختلافاته وأشكال تحضيره إلى علامة تجارية، لا بدَّ أن تمتلك خصائص محددة، وأي محاولة لتقليدها أو تطويرها قد تعني "سرقتها"، وهذا ما يبرز صراعات على تقاليد أنثروبولوجيّة لا يمكن بدقة ضبط تاريخها.
لا نحاول التقليل من المسؤولية التي تحملها اليونيسكو، وأثرها في الحفاظ على الكثير من التراث اللامادي، وخصوصاً ذلك الذي يتعرَّض للنهب والإفناء بفعل الحروب والعنف السياسي. لكن نيل الاعتراف من هذه المؤسسة لتشكيل الهوية الوطنيّة، يحمل نوعاً من أشكال الاستعمار لا يمكن رصدها بدقة، بل يتحرَّك كشبح فوق هذه الأشكال من الصراعات.