التمثيل من أكثر المهن إنهاكاً وصعوبةً، فالممثل يلعب على أوتار أجهزته المختلفة، سواء انفعالياً أو جسدياً أو تعبيرياً. فهو ليس كالرسّام أدواته الريشة والألوان. وليس كالكاتب أدواته الورقة والقلم. وليس كالمصور أدواته الكاميرا والعدسات. جسده ووجهه وإحساسه أدواته. كما أن عملية اختيار الدور مخادعة، وتحتاج إلى حذق وخيال من المخرج والممثل معاً.
لذا، نجد مخرجاً كفرانسيس فورد كوبولا يُصِّر على مارلون براندو وآل باتشينو في رائعته "الأب الروحي"، بينما الجهة المنتجة رفضت الاثنين. وقتها رأى المنتجون أن نجم براندو في أفول ولا يصلح لأداء شخصية "دون كورليوني"، كما وُصف بالمزعج في أثناء التصوير. بالنسبة لآل باتشينو كان الأمر أكثر تعقيداً، لأنه كان لا يزال ممثلاً مغموراً حينها، ولم يستسغ المنتجون أسلوبه فضلاً عن قصر قامته.
تعرضت أنا شخصياً لمواقف مشابهة. في فيلم "معالي الوزير" (2003)، رشحني المخرج سمير سيف لدور "عطية عصفور"، أمين سر الوزير (أحمد زكي)، وكاتم أسراره، بل ومحركه في كثير من الأحداث.
وقرر كاتب الفيلم وحيد حامد والمنتج ممدوح الليثي، اللذين لم يرياني في مثل هذا الدور، التعاقد مع ممثل آخر. عندما علم سمير سيف غضب غضباً شديداً، وأصر على وجهة نظره في اختياري. تم له ما أراد. وأعتقد أن السينما المصرية كسبت فيلماً مميزاً. والنجاح الذي لاقاه الفيلم أذهل المنتج ممدوح الليثي الذي عارض ترشيحي بداية، ثم اعتذر مني عن هذا الرفض لاحقاً.
أيضاً أُحب أن أورد في هذا السياق ما حدث بيني وبين المخرج الراحل حسين كمال (1934 ــ 2003). وقتها، اعتذرت عن دور لم أر نفسي فيه في فيلم "المغتصبون" (1989). واستعان صنّاع الفيلم بعدي بالوجه الجديد حينها محمود حميدة. اعتذاري أثار حسين كمال، الذي انفجر بثورة عنيفة، وصب جام غضبه قائلاً إنني مجرد ممثل باهت لا أملك مقومات النجومية.
ومر الزمن، ليفاجئني حسين كمال في غرفتي خلف كواليس مسرحية "حب في التخشيبة" (1994)، مهنئاً ومعبراً عن إعجابه بموهبتي على الخشبة. كان يمكن له حينها الاحتفاظ برأيه، لكنها أخلاق الكبار.
وبعدها أديت دور البطولة في مسلسل "أوان الورد" (2000)، من إخراج سمير سيف وتأليف وحيد حامد. ترشيحي للمسلسل هذا له قصة أخرى لا مجال لذكرها الآن. المهم، حقق المسلسل نجاحاً لافتاً في مصر والعالم العربي. وفي إحدى الفعاليات التي دعيت إليها احتفالاً بنجاح المسلسل صادفت المخرج حسين كمال الذي صاح موجهاً كلامه إليّ "أحسن ممثل في مصر". تقدم مني بكل ما يميز الكبار من نبل، ماداً يده بترحاب وحرارة لمصافحتي، قائلاً "أنا بعتذرلك لأني أخطأت في تقييمك. أنت أحسن ممثل في مصر".
وصفق جميع من كانوا حاضرين وقتها. كان في مقدور حسين كمال أن يعاند ويكابر ويتجاهل تهنئتي، أو يقولها لي بفتور بارد، كما قالها لي أحد النجوم الكبار في إحدى المناسبات. ولكن يظل الكبير كبيراً.