"ثريدز"... لا مقامر طيب للرهان عليه

12 يوليو 2023
"ثريدز" جولة في الصراع بين ماسك وزوكربيرغ (تيلينا كوتوتدج/Getty)
+ الخط -

قبل أيام، أشارت ماي ماسك إلى نيتها إلغاء المباراة القتالية المرتقبة بين نجلها رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك (52 عاماً) ومنافسه مارك زوكربيرغ، قبل أن يحسم "مطلعون" على المسألة أن النزال لن يحصل. تركت هذه الأخبار المترقبين لهذه المواجهة، أياً كانت أسبابهم للترقب، في حالة من خيبة الأمل الفائقة، بعد أن خسرت البشرية فرصتها الوحيدة لمشاهدة اثنين من أسيادها وهما يكيلان اللكمات لبعضهما. إلا أن هذين السيدين، مثل غيرهما، ليسا مجرّد كتل عضوية ينحصر اقتتالها في حلبة. كلا. في عالم اقتصاد المعرفة ثمة أفكار وابتكارات، وثمة إبداع، ومجال للعضلات كي تُفرَد مجازياً.

بهذه الطريقة، استُقبِل تطبيق ثريدز Threads كجولة في النزال المُلغى حتى الآن، بين ماسك وزوكربيرغ، وهما اثنان من عباقرة قرننا الواحد والعشرين يُعرَف عنهما، بين الفينة والأخرى، وعلى غرار كثير من عباقرة الحقبة نفسها، تبادل الاتهامات بسرقة الأفكار. لكن ما الذي يمكن أن نستشفه من هذا المتغيّر، بعيداً عن الضوضاء التي ستهدأ من تلقاء نفسها على أي حال؟

بريق التاريخ

تطبيق ثريدز الذي أطلقته شركة ميتا، المالكة أيضاً لـ"فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب"، ليس فكرة جديدة بأي معنى من المعاني، رغم أن بعض التطورات الأخيرة ساهمت في صياغة هذه الفكرة وتغيير ملامحها. عام 2019، كانت أنظار "فيسبوك" منصبة على تطبيق سناب شات، بوصفه غريماً ينافسها على أنظار ونقرات المستخدمين الأصغر سناً. وفي تلك الظروف، ولد الشكل الأول من "ثريدز" الذي كان، للمفارقة، نقيض الشكل الحالي، من حيث تركيزه على المساحات الأكثر خصوصية كالرسائل، إضافة لغلبة الصور والفيديوهات بحكم المنافسة التي كانت مندلعة حينها.

لم يدم هذا التطبيق الذي استند لـ"إنستغرام" أيضاً لفترة طويلة، وسرعان ما وجدت "فيسبوك" (غيرت اسمها إلى ميتا في أكتوبر/ تشرين الأول 2021) نفسها مضطرة لرمي رهانها الفاشل بعيداً، والاتجاه نحو خطط أكثر بريقاً وشمولية، في سعيها المحموم نحو الحصول على إكسير الشباب. وبطرق يعجز الإنسان العادي عن تصورها أو إدراكها، وجدت فيسبوك في عالم ميتافيرس ضالتها. وهناك بدا أن تصوّر مستقبل ديستوبي برسوميات سيئة سيشكل عرضاً لا يمكن رفضه، حيث يمكن لنا أن نعمل ونستجم ونختلط بأصدقائنا، بينما تحكم "ميتا" على محاجر العيون والأصابع وكل ما تيسر لها. لا داعي لذكر مآل تلك الرؤية الثورية التي طرحها زوكربيرغ وكيف خبت.

وفي الفترة التي حاول عبقري وادي السيليكون هذا البحث عن مسارٍ جديد، بعد هذا الإخفاق المهيب، كان عبقري آخر قد مضى بالفعل في رحلته. ففي السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، دخل إيلون ماسك مقر "تويتر"، حاملاً مغسلة، في محاولة للتلاعب على جملة Let that sink in (خذوا وقتكم لتستوعبوا). في ذلك اليوم، وبعد محاولات عدة للتملص، أعلن ماسك استحواذه رسمياً على "تويتر" مقابل 44 مليار دولار، مؤكداً أن الفشل غاية يمكن الوصول إليها بطرق عدة. وللحقيقة، أقدم ماسك في هذه الفترة القصيرة على عدد لا بأس به من الخطوات المثيرة للجدل، مثلما حدث عند تغييره نظام توثيق الحسابات، وما تبع ذلك من قضايا تخص تنامي خطاب الكراهية على الموقع، أو إعادة الحسابات الموقوفة، وإيقاف حسابات في المقابل، فضلاً عن الأعطال التقنية التي طاولت هذه المنصة.

وهنا، عاد العبقري الأول إلى التطبيق المنسي الذي صار اسمه السري "المشروع 92"، محولاً التجربة الفاشلة، ومغيّراً من خصائصها لتستبدل "تويتر" التي صارت وكأنها فريسة تنزف في البحر.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

أخيار وتجارب صديقة

من المفهوم بعد هذا الاستعراض لماذا سيركز زوكربيرغ، منذ اللحظة الأولى، على تعريف تطبيق ثريدز بأنه "مساحة مفتوحة ولطيفة". فمع هرب المستخدمين من "تويتر"، كان من الطبيعي أن يتبعهم المعلنون، وهم المحرّك الرئيسي لأي شبكة تواصل اجتماعي اليوم، بل وللإنترنت نفسها ربما، ليسجل "تويتر" انخفاضاً نسبته 59 في المائة على صعيد مبيعات الإعلانات، مقارنة بالعام الماضي. وعلى الرغم من أن "ثريدز" حتى اللحظة يخلو من الإعلانات، فسيكون من الصعب تخيّل بقاء حاله هذا، وسرعان ما سيؤدي الموقع الغرض المتوقع منه، معتمداً على قاعدة متينة من المعلومات المفصلة عن كل مستخدم، وهو ما يتسبب دورياً لـ"ميتا" بالانتقادات، للحد الذي أجّل إطلاق التطبيق في أوروبا حتى اليوم. "ميتا" غير متأكدة من مدى تأثير تشريعات الاتحاد الأوروبي بخصوص استخدام بيانات المستخدمين.

إن هذا الشكل الذي تتبعه "ميتا" في تصدير التطبيق من جهة، والصعوبة الهائلة التي قد يواجهها المعظم في إبداء أي شكل من أشكال التعاطف أو الفهم لشخصية مثل إيلون ماسك، ما لم يكونوا من شريحة المهووسين به من جهة أخرى، قد يساهم في تشكّل سردية مبنية حول معركة بين الظلمة والنور والخير والشر، حيث تقبع مفاهيم كبيرة، مثل حرية التعبير والأمان وغيرها، على المحك، وهي باختصار تسميات منمقة لما كان يسمى في السابق لوحة إعلانات. وهنا تكمن المأساة ربما.

ربما كان تزامن شيوع الجيل الأول من هذه الوسائل، في المنطقة على الأقل، مع الربيع العربي قد أعطى هذه الوسائل سمة مكبّر الصوت أو الأداة الاحتجاجية. إلا أن الفترة الفاصلة بين تلك النقطة واليوم قد غيّرت هذا التلقي، فمع تتالي فضائح استغلال البيانات واستهداف المراهقين، وما أشيع عن تداخل عمل هذه الوسائل بعمليات حساسة كالانتخابات، ماذا بقي من تلك الصورة؟ القليل من صناع المحتوى بين حشود من الهائمين بحكم العادة أو بحكم الضرورة، والذين يؤكد بعضهم كل عام أنه سيكون الأخير لهم.

تتشابه هذه الصورة مع ما يبدو "ثريدز" عليه اليوم. فعلى الرغم من كل الكلام الذي قيل عن تحطيمه الأرقام القياسية من حيث عدد المستخدمين الجدد، يجد الإنسان نفسه أمام منصة لا يعرف الغاية منها، ولا يمكنه بتلك السهولة إلغاء حسابه عليها، بسبب ربطه بحساب "إنستغرام". إذ استقطب أكثر من مائة مليون مستخدم في أقل من 5 أيام، محطماً الرقم القياسي الذي سجله برنامج الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي" للتطبيق الأسرع نمواً. وفيما احتاج "تشات جي بي تي" إلى شهرين للوصول إلى عتبة مائة مليون مستخدم، و"تيك توك" 9 أشهر، احتاج "إنستغرام" إلى عامين ونصف عام للوصول إلى هذه العلامة، بعد إطلاقه عام 2010. واعتمد "ثريدز" في انطلاقته على قاعدة المستخدمين الخاصة بـ"إنستغرام" التي تتخطى ملياري حساب، وهو ما يوفر عليه تحدي البدء من الصفر.

ومع أن "ثريدز" لا يزال في أيامه الأولى، ما يستوجب تريثاً في الحكم ربما، إلا أن ارتباطه حتى اللحظة بسمة كاسر الأرقام القياسية، واعتماده الجزئي على مناوشات رئيسه التنفيذي مع غريمه، فيما يبدو للوهلة الأولى تأكيداً على قابلية موت الكوميديا تحت الظروف المناسبة أولاً، وعلى أن نزالاً في حلبة قتال ليس بالغرابة التي بدا عليها للوهلة الأولى. بذلك، يصبح نجاح "ثريدز" من فشله مسألة ثانوية بالمطلق، لأن السؤال الأساسي لم يكن سؤال احتمالات بقدر ما كان سؤالاً عن الكازينو نفسه وروّاده الذين يثبتون كل فترة أن الرهانات ليست كبيرة بما فيه الكفاية بالنسبة لهم، مهما كانت طبيعتها ومهما كان شكل إخفاقهم السابق. وفي مكانٍ كهذا، يصبح من الجلي أن لا مكان للرهان على حضور "مقامرٍ طيب".

المساهمون