في فيلمها الروائي الأول، "سماوات لبنان" (2020)، اختارت كلوي مزلو، المخرجة والكاتبة والممثلة الفرنسية ذات الأصل اللبناني، أنْ تحكي عن الحرب اللبنانية، بتشابكاتها وتعقيداتها، وبجراحها الباقية آثارها حتى اللحظة. فيه، سعت إلى خلق صورة حيّة عن لبنان، بيروت تحديداً، قبل الحرب وخلالها، بمزجها الرومانسي بالشخصي، والفانتازي بالواقعي، والاجتماعي بالسياسي، والفكاهة بالمأساة.
رغم أنّه يتناول تلك الحرب، لم تكن معالجة "سماوات لبنان" بالشكل المعتاد لهذا النوع من الأفلام. إنّه ليس تاريخياً، ولا يحاول تأريخ شيءٍ. لا يهدف إلى التوثيق، أو نكء الجراح. فيلمٌ إنساني، شخصي أساساً. لذا، ينشغل بحياده، وبتقديمه وقائع كثيرة بخصوص ما حدث إنسانياً، بكثيرٍ من الاعتدال والأمانة، ومن دون انحياز، حتّى إلى وجهة نظر خاصّة، باستثناء إدانة ما حدث، وتصوير عبثية الصراع العرقي الداخلي، وعبثية الحرب، وعواقبها الكارثية. هذا كلّه عبر سردٍ مائلٍ إلى بساطة الطرح، وعمق الرؤية، من دون افتعال أو ادّعاء.
رغم غلبة التصوير الداخلي، حيث الديكورات شبه ثابتة أو متكررة، لا ملل في المُشاهدة، بل راحة بصرية، نابعة من فضاءات المكان، وألوانه وبساطته وتناسقه. ملابس الشخصيات أضفت أصالة تاريخية على الأحداث. وإلى التناغم البصريّ، الناشئ من إضاءة الكادرات، وألوان الديكورات والملابس، يُلاحَظ أيضاً تعمّد كلوي مزلو طبع فيلمها بطريقة خاصة، إذْ تظهر صورته عتيقةً ومُحبّبة، ما أكسبه أصالة، وجعله يتماشى مع طبيعة أفلام ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته.
فنياً أيضاً، اختارت مزلو أكثر من شكلٍ لسرد قصّة فيلمها، وإيصال رؤيتها، بطريقة بصرية تتمتّع بالجاذبية والجدّة، بجمعها بين الأداء التمثيلي الطبيعي، والأداء السريالي الفارسي، الشبيه أحيانًا بالـ"بانتومايم". كما أنّها نفّذت مشاهد كثيرة بتقنية الرسوم المتحركة، الباعثة على الطرافة، لتكثيف الماضي والحاضر، والانتقال السلس بينهما. رسومٌ جرى توظيفها عند الحاجة، ولم تُستخدم عشوائياً.
هذا التنوّع في التقنيات والأساليب، الموظّفة باحترافية، أثرى "سماوات لبنان"، وجعل المُشاهدة ممتعة. كلوي مزلو لم تقع في الارتباك أو الإقحام أو طغيان أسلوبٍ على آخر، ما يحول دون المُشاهدة، وهذا يُحسب لها. هناك الخاتمة أيضاً، الموفّقة للغاية، إذْ تبنت مزلو، وشريكها في كتابة السيناريو ياسين باداي، الشكل التقليدي لها، الموجود في غالبية الأفلام العربية.
"سماوات لبنان" ("تحت سماء أليس"، وفقاً للعنوان الفرنسي)، اختير في مسابقة "أسبوع النقاد"، في دورة عام 2020 الملغاة لمهرجان "كانّ" السينمائي. قصّة حبّ مُعالَجة ومروية باتزان. بطلتها الشابة السويسرية أليس دولالوا (ألبا رورفاخر)، المنتقلة حديثاً إلى بيروت، في خمسينيات القرن الماضي، للعمل كممرضة ومربية لدى عائلة مغتربين. بعد فترة وجيزة، تُغرم بعالِم الفيزياء الفلكية، اللبناني جوزيف قمر (وجدي معوض). شاب طموح، يحلم بصناعة صاروخٍ يُرسل على متنه أول رائد فضاء لبناني إلى القمر.
العلاقة الجدية بينهما، الماضية في طريق الزواج، تدفع أليس إلى قطع جذورها مع بلدها، وإبلاغ أهلها، بحسمٍ وصرامة ومن دون تردّد، بعدم رغبتها في العودة، لأنّها وجدت في بيروت الوطن والحبيب. تمرّ الأعوام بمثالية كبيرة، وينعم الزوجان بحياة جميلة وهادئة. يُربيان ابنتهما منى (إيزابيل زيغوندي)، الموهوبة موسيقياً. فجأة، تندلع الحرب اللبنانية في 13 إبريل/نيسان 1975. بعدها، لا يبقى شيءٌ على حاله.
تدريجياً، ينتقل أفراد عائلة جوزيف للإقامة معه ومع أليس ومنى في شقتهم، التي تُصبح مكتظّة للغاية، "أشبه بفندق"، كما قالت أليس. إقامة أفراد العائلة معاً فرصة استغلتها كلوي مزلو بشكلٍ ذكي جداً، لإبراز أحد الجوانب الجيدة للحرب. فرغم الزحام، وضيق المكان، وشحّ المدخول، وندرة الطعام وأدوات التسلية باستثناء الراديو، وانتفاء أيّ مظهر لحياة طبيعية، يبرز عيش البشر بعضهم مع بعض. يلتحمون بصدقٍ في الأزمات وتشابك المصائر. يتكاتفون ويتغاضون عن سخافات كثيرة في الحياة، لبلوغ الأمان، وإنْ يتمثّل الأمان بانقضاء غارة، أو الخروج سالمين من المخابئ.
شخصية أليس جذّابة ولطيفة. هادئة الطباع، ذات سلام داخلي كبير وتسامح مع النفس والعالم حولها. ملامحها تُعبِّر عن أشياء كثيرة، من دون الحاجة إلى التحدّث طويلاً. مع ذلك، يبرز تناقضها جلياً. فرغم تركها بلدها الآمن، بحثاً عن حريتها ومستقبلها في مكانٍ آخر، لا تقبل الشيء نفسه لابنتها، المُصرّة على السفر إلى فرنسا، بحثاً عن أمن ودراسة ومستقبل أفضل. لكنّ منى تغلب والدتها، بتشجيع جوزيف وموافقته.
رغم تفهّم أليس الظروف المعقّدة والمركّبة للحرب، وصلاتُها كي يعمّ السلام والأمن، وتتصالح الطوائف؛ ورغم تحمّلها ويلات الحرب نحو 10 أعوام؛ ورغم حبّها الجارف لزوجها، وتفهّمها ولعه بعمله وحلمه، وقبل كلّ شيء ببلده؛ تكون الحرب سببَ أوّل خلاف، جدّي وعميق، بين الزوجين، بعد مشاعر جارفة، وحبّ صادق، وزواج مثالي دام عقوداً.
الحرب بحدّ ذاتها ليست المشكلة الكبرى لأليس. المشكلة الحقيقية فشلها واستسلامها لمغادرة لبنان، البلد الذي أحبّته وتعلّقت به، وقضت فيه أجمل سنين عمرها. ففي النهاية، برز السؤال الحاسم، الذي يبدو أنّ على كلّ لبناني أو من يعشق البلد أنْ يطرحه على نفسه، ولو مرّة واحدة: البقاء أو المغادرة.
هذا أحد الأسئلة العديدة التي يتناولها "سماوات لبنان". هناك أيضاً: هل الرحيل بحدّ ذاته حلّ ناجع؟ هل سيتغير الأمر لو لم تكن هناك إمكانية للرحيل؟ هل إمكانية الرحيل أساساً نعمة أو نقمة؟