توفيق بابا (1/ 2): الاشتغال بكاميرا غير متوازنة تقنياً صعبٌ ومُرهق

29 اغسطس 2022
توفيق بابا: الضابط الأول في الكتابة مقاربة الإنتاج (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أعلن توفيق بابا عن نفسه مُخرجاً، في الدورة الـ21 (28 فبراير/شباط ـ 7 مارس/آذار 2020) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، بشكل مفاجئ ومباشر، بفيلمٍ طويلٍ أوّل، اختار له عنوان "أوليفر بلاك". لا أحد كان يعلم شيئاً عن هذا الفتى، القادم من ورزازات، أرض تصوير الإنتاجات العالمية الكبرى، التي لا تزال في هامش السينما المغربية.

أولى حسنات "أوليفر بلاك" تكمن، بالضبط، في أنّه يُصوّر صحراء مغربية، لطالما ظلّت حكراً لنظرة أجنبية، استثمرتها غالباً في توظيفٍ إكزوتيكي، كفضاءٍ مشبعٍ بالدلالة، ومغلقٍ على الهواء الطلق، استعارةً عن عزلةٍ وتيهٍ يعيشهما شيخٌ مُتعبٌ (الرجل الأبيض)، يسافر لحضور زفاف حفيدته، وأوليفر، مهاجرٌ من جنوب الصحراء، يسعى لبلوغ المغرب لممارسة فنّ السيرك، أطلق عليه الشيخ اسم "فوندرودي"، في إشارة إلى رواية دانيال ديفو، "روبنسن كروزو" (1719)، التي قدّم لها المخرج ـ كاتب السيناريو قراءةً حديثةً ومُلهمَة، يلامس بفضلها ثيمات معقّدة، كالموت والتبعية، وعبثية السعي في عالمٍ أضحى ـ بفعل حبّ المادّيات وانتهاك كرامة الإنسان في سبيلها ـ سيركاً كبيراً، يجد أوليفر نفسه ضحيّة لتلاعباته، وفق نهايةٍ غير متوقّعة، تقطع ـ بلمستها الواقعية والمحكومة بسياقٍ محدّدٍ ـ مع طابع الفيلم التأمّلي والتجريدي، إلى حدٍّ ما.

بعد تتويجه في "المهرجان الوطني" بجائزتي أفضل تمثيل رئيسي للسنغالي الحادجي مودو مْبو، وثانوي للمغربي حسن ريشيو، حقّق الفيلم مساراً جيّداً في مهرجانات دولية للسينما المستقلّة، ونال جوائز عدّة في إيطاليا والهند وكوريا الجنوبية ولوس أنجليس، قادته إلى خوض الترشيحات الأولى لـ"غولدن غلوبز"، بفضل المنتجة والموزّعة الأميركية دافنا زايمان، قبل أن يشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ22 (28 مايو/أيار ـ 4 يونيو/حزيران 2022) لـ"المهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة (فيكاك)"، فائزاً بجائزتي النقد و"دون كيشوته"، التي تمنحها "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية".

الفيلم، تنفيذاً واشتغالات، مغامرة حقيقية، خاضها توفيق بابا بإمكانيات هزيلة، وشغفٍ غير محدود، وعوّل فيها على تضحيات فريقٍ شابٍ. في حوار "العربي الجديد" معه، يحكي بابا عن ظروف وتفاصيل إنسانية وتقنية مُثيرة للاهتمام، طبعت رحلة دامت أكثر من 3 أعوام، لإنجاز فيلمٍ طويل بتمويل ذاتي قليل، وطموح فني كبير. تركيبةٌ نادرةٌ، تستحق الإشادة، نظراً إلى ندرتها في المشهد السينمائي المغربي.

 

(*) أول ما يثير الانتباه في تجربتك أنّك اقتحمتَ المشهد السينمائي المغربي، بشكل مفاجئ ومباشر، بفيلمٍ طويل، ما جعل الجميع يتساءلون: "من توفيق بابا هذا؟". هناك حالات أخرى لمخرجين مغاربة استهلّوا مسارهم بأفلامٍ طويلة، مثل كمال كمال، لكنّها نادرة. كيف تفسّر ذلك؟

في الحقيقة، أنجزت 5 أفلامٍ قصيرة: "إِبيتاف" (2013) و"زمن الشّتاء" (2013) و"رجل الرّمال" (2014) و"روتين" (2015)، و"بهلوانات" (2015). عملي القصير، الذي رضيت عنه أكثر، يتبنّى نظرة طفلٍ لنتائج "الربيع العربي"، مباشرة بعد واقعة وفاة الطفل السوري آلان كردي غرقاً على شاطئ تركي. لكنّي لم أخرج هذه الأفلام في حيّزٍ واسعٍ، لأنّي لم أتوافر على من يساعدني في ترويجها، فبقيت حبيسة حاسوبي المحمول، يُشاهدها في إطار ضيّق أصدقائي في ورزازات. الهدف الأوّل منها اكتساب الخبرة، وتجريب أشياء عدّة، ثمّ الحصول على البطاقة المهنية كمخرج، تلافياً للمشاكل الإدارية التي واجهتني بعد إنهائي دراسة السينما في الدار البيضاء.

 

(*) أفلامك القصيرة لم تشارك في أيّ مهرجان، حتى في المغرب؟

أبداً. لم تخرج قطّ إلى الوجود. بعدها، أنجزت "بيلوت" (فيلم تجريبي، يعطي نبذةً عن أجواء عمل يُراد إنتاجه ـ المحرّر)، بـ17 دقيقة، لفيلم طويل بعنوان "منزل البحيرة"، لأقنع منتجين بالمشاركة في التمويل. قدّمته إلى صندوق "المركز السينمائي المغربي" لنيل دعم منه، لكنّي لم أحصل عليه، رغم موافقة شفهية من منتجٍ في الخارج لدعمه. عام 2017، قرّرتُ تصوير "أوليفر بلاك"، لأنْ لا خيار آخر أمامي، غير اقتحام المجال بـ"القوّة".

 

(*) كيف جاءت فكرة "أوليفر بلاك"، وتشكيل السيناريو؟

كتبتُ صيغة أولى عام 2014، تحكي عن أوليفر بعد وصوله إلى المغرب، وكيفية سلوكه سكّة القطار، مشياً، من وجدة إلى الرباط، بعد أنْ أضاع سبيل أمّه، فظنّ أنّها توجّهت إلى إسبانيا. ظلّ يتنقّل بين الرباط وطنجة بحثاً عنها. من أجل ذلك، امتهن التسوّل، وانضمّ إلى عصابة.

لأنّ التصوير في الرباط مُعقّد ومُكلفٌ جداً، قرّرت إعادة كتابة السيناريو، وأُمَوقعه في الصحراء، لقدرتي على التحكّم في هذا الفضاء، لكوني متحدّراً من ورزازات. كتبتُ النسخة الجديدة في شهرين، تقريباً، أواخر عام 2016.

 

(*) بعد انتهائك من كتابة السيناريو، كانت معك البطاقة المهنية لمخرج، وشركة إنتاج، وكان بإمكانك التقدّم بالمشروع لنيل دعم صندوق التسبيق على المداخيل، لكنّك لم تفعل. لماذا؟

لم يكن لديّ وقتٌ لذلك. كنتُ بحاجة ماسّة إلى المال، فاشتغلت مترجماً من الأمازيغية إلى العربية في تصوير "غزية" لنبيل عيوش. بعد نيلي مستحقّاتي، اشتغلت في "كوب 22" (مؤتمر الأمم المتحدة للتغيّر المناخي عام 2016 ـ المحرّر)، وحصلت على بعض المال. بحلول ديسمبر 2016، قرّرت استثمار ما جمعته في تصوير الفيلم. لم أكن مُستعداً لخوض تجربة الدعم، وصوغ ملف، وانتظار النتائج، ثم الدفعة الأولى فالثانية، إن نلتُ التسبيق. توجّست كثيراً من مسألة الدفعات. كنت أقول لرباب (رباب أبو الحسني، مُنتجة الفيلم ـ المحرّر) إنّ ذلك لن يفيد في شيء غير تعقيد الأمور. حين يسمع التقنيون أنّ هناك أموالاً، سيشكّكون في صدق نياتنا، إن تأخّر دفعها. أفضّل قول حقيقة الموازنة الضعيفة لأصدقائي التقنيين، طالباً منهم أن يضحّوا ويخوضوا تحدّي صنع الفيلم معي بروحٍ قتالية.

هذا ما حدث. اشتغل جلّ التقنيين من دون مقابل، وبدلاً من استثمار الإمكانات القليلة المتوافرة في اقتناء المعدّات، آثرت صرفها في خدمات الطعام والنّقل. لا يُمكن أنْ تشتغل معي مجاناً، وأقدّم لك طعاماً رديئاً. حرصتُ على أنْ يكون الطعام جيّداً، كخدمات النقل.

 

 

(*) قرار كتابة فيلم يدور في الصحراء مصيري وحاسم بالنسبة إلى إنجازه، لأنّه يقتضي مقاربة الكتابة انطلاقاً من إكراهات الإنتاج، بدل أنْ تكون أبواب التخييل مفتوحةً أمامك. أكان سهلاً إرساءُ هذه المقاربة؟

الضابط الأول في الكتابة مقاربة الإنتاج. كنتُ أكتب وأفكر دائماً بشحّ الموازنة، وفي الوقت نفسه أسعى لتجنّب السطحية والاستسهال، اللذين يمكن أن يتسلّلا من خلال هذا الوازع. سعيتُ إلى توخّي العمق، وإتقان السّرد، والقيمة المضافة من داخل إكراهات الإنتاج. هنا، حضرت الصحراء. اخترت فضاء "وجدة" في البداية، لأنّ المهاجرين يتجمّعون في غابات قريبة منها، فتنشأ جماعات مسيحية وأخرى مسلمة. السيناريو الأول يتناول نزاعاً بين جماعتي مُهاجرين. عندما التقيتُ مهاجرين استقرّوا في ورزازات، حكوا لي أنّهم غالباً ما يكونون مُرافَقين بدليل يرشدهم في الطريق، فأضفت شخصية أنوك الدليل. كانت لديّ أفكار واضحة عن رحلة المهاجرين من جنوب الصحراء، وكيفية وصولهم وسفرهم في المغرب.

 

(*) هناك مقاربة أخرى مهمّة: المقاربة الأدبية. أكانت بذورها حاضرة في النسخة الأولى، أم أضفتها في الخطوات الأخيرة من الكتابة؟

كانت هناك منذ النسخة الأولى. أتيتُ من خلفية أدبية، لأنّي درستُ الأدب الفرنسي في الجامعة. أحبّ كثيراً الأدب الإنكليزي أيضاً. النيّة الأولى تسميةُ المهاجر أوليفيه، إشارة إلى شجرة الزيتون (Olivier باللغة الفرنسية ـ المحرّر)، ودلالتها الكونية على السلام والمحبة. ثم فكّرت في "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، للتشابه الكبير بين مصير المهاجر في الصيغة الأولى ومسار تويست، الذي لجأ بدوره إلى السرقة، وكان فاقداً أمّه. بعدها، ربطتُ أوليفر تويست بشخصية فوندرودي (يوم الجمعة باللغة الفرنسية ـ المحرّر) في "روبنسن كروزو" لدانيال ديفو.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) كيف اشتغلت على شخصية الرجل الأبيض، انطلاقاً من رواية ديفو؟

الفكرة الأساسية كانت مفهوم الدّونية والتّعالي. الشيخ الذي يرى في المهاجر شخصاً دونياً لا دور له في الحياة، والمهاجر ينظر إلى الشيخ كمنقذٍ، ويدعوه الرجل الأبيض. بدأت أكثّف هذا التباين بالاشتغال على جدلية النقيضين، وكيفية استغلالها درامياً. بالنسبة إلى الرواية، قمتُ بنوعٍ من قراءةٍ أخرى لها. وبحكم أنّ المتلقي يعرف أحداثها، يعلم جيّداً أنّ "جمعة" لن يركن أبداً لوضعيّته.

 

(*) هناك أيضاً التصرّفات الخرقاء لجمعة، التي تُثير مشاكل لروبنسن كروزو، إلى درجة أنّها تسبّب حريقاً التَهَم كلّ شيء.

فعلاً. كنتُ سأورد هذا الحدث، إذْ كتبتُ مشهداً ذا طابع كوميدي، يتسبّب فيه جمعة بإحراق خيمة الشيخ. لكنّي رأيتُ أنّ في الأمر مبالغة وإحالة مباشرة على الرواية، فآثرت إزالته.

 

(*) الصّورة مهمّة جداً في المقاربة الجمالية للفيلم، ودورها أساسي في التقاط الأجواء الصحراوية الخلّابة لمنطقة ورزازات. كيف ناقشت تصوّرها مع مدير التصوير؟

أنا ابن ورزازات. اشتغلتُ سابقاً في أفلام أميركية صُوِّرت هناك، وبالتالي أعرف جيّداً فضاءات المنطقة، التي فيها أماكن رائعة وساحرة، إلى درجة لا يُمكن تصوّرها. إسماعيل الطويل، مدير التصوير، رافقني في مساري منذ "إبيتاف"، وصوّر معي 4 من أفلامي القصيرة، إضافةً إلى الـ"بيلوت". لديه رؤيةٌ نافذة ومثيرة للاهتمام. عندما أقترح شيئاً ما، يتريّث غالباً، ثم يعود إليّ بأفكار جيّدة عن طريقة تطويره وتحسينه. طُرحت أمامنا مشكلةٌ حقيقية، لأنّنا صوّرنا بكاميرا "ريد سكارليت"، قديمة نسبياً، بعد أنْ زوّدناها بعدسات "كانون". ما زاد الطّين بلّة، أنّنا لم يكن لدينا "ماتّ بوكس"، أي أنّ العدسات كانت في مواجهة مباشرة مع أشعة الشمس.

كان تحدّياً صعباً ومُرهقاً الاشتغال بكاميرا غير متوازنة تقنياً، بسبب اختلاف العدسات عن الكاميرا. هذا جعل خلفية الصورة تبدو ضبابية في بعض المقاطع. لم تكن أمامنا أي فرصة لتصحيح ذلك لاحقاً. حتى معدات الإضاءة قليلة جداً في الليالي الـ3 التي صوّرنا فيها. التصوير الخارجي ليلاً صعبٌ ومُكلف للغاية، كما تعلم. هناك ضوء واحد من فئة 4 كيلووات. حاولنا التعويض باستخدام النار وحيلٍ أخرى، لكنّ الإضاءة ظلّت غير كافية.

 

(*) اعتمدت أيضاً على تصوير ما يطلق عليها "الأوقات السحرية"، أي الشروق والغروب، التي تتميز في الصحراء بضوء يمزج ألواناً رائعة للغاية، أضافت الكثير للفيلم.

هذه أشياء لا تُقدّر بثمن. وحدها طبيعة الصحراء تمنحها لك. لجأنا أيضاً إلى لقطات القطع لإثارة إحساسٍ بمرور الزمن وسيرورة السفر، مع تلاحق أطوار النهار والليل. صوّرنا في فبراير، حين تبلغ درجة الحرارة الدنيا في منطقة ورزازات 4 درجات تحت الصفر. في الليلة الأخيرة من التصوير، كان أعضاء الفريق يرقصون من فرط شعورهم بالبرد. أحرقنا كلّ أعواد الحطب التي وجدناها في محيطنا، من دون جدوى.

 

(*) يبدو أنّك لا تُحبّذ تكرار محاولات التصوير على البلاتوه.

نعم. إسماعيل يحبّ أنْ يُوطّن ميكانيكا اللعب بالتجارب والتمارين، لكني كنتُ أذهب عكس ذلك. نضع الكاميرا، ونعطي الانطباع للممثلين أنّنا سنتمرّن على اللقطة، بينما نصوّر، وغالباً لا نعيد اللقطات. كان مشهد اللّغم من الاستثناءات القليلة التي صوّرناها من وجهتي نظر حسن ومودو، ثمّ دمجناهما في المونتاج. كان الممثلان على درجة كبيرة من التركيز والإحساس بما يتطلّبه دوراهما منهما. نجلس، فيُخرج حسن العود ويعزف. صوت العود وسط صمت الصحراء كفيلٌ، وحده، بوضع الجميع في مزاجٍ روحاني. أحدّث حسن عن المشهد المقبل، وما أنتظره منه، بينما يدندن على عوده. أما مودو، فكان شبه مسكون بروح ما. لم ينسجم معنا في اليومين الأولين، فقلتُ لرباب: يجب استقدام صديقه للتحدث معه بـ"الوُلوف" (لغة أغلبية سكان السنغال ـ المحرّر)، ليتواصل قليلاً، ويخرج من عزلته. جاء صديقه، وبدأ يندمج معنا شيئاً فشيئاً. أصبح يستلقي، بين فينة وأخرى، على الرمال، ويتحرّك بحرية كقطٍّ صغير.

رأيت ذلك، فألححت على إسماعيل ألّا يُفوّت تعقّبه بالكاميرا، ليلتقط لحظات توحّده مع الطبيعة، كلّما سنحت له الفرصة. هكذا تمكّنا من الحصول على مشاهد رائعة، كمشهد لهوه بيديه مع القمر ليلاً، أو حين يُقلّب قطعة خبزٍ يابسةٍ تحت أشعة الشمس. هذه لم تكن مكتوبة، لكنّها أضافت الكثير إلى الفيلم.

المساهمون