"تشيلي 1976": ذاكرة وآلام في سيناريو متماسك

27 يناير 2023
"تشيلي 1976": ثقل الرعب في ذاكرةٍ وراهنٍ (الملف الصحافي)
+ الخط -

كان عام 1973 مظلماً وفوضوياً على دولة تشيلي، بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب ديمقراطياً، سلفادور ألليندي (1908 ـ 1973)، الذي توفي في ظروف غامضة، في قصر الرئاسة، بعد رفضه المغادرة، وعدم تزكيته الانقلاب، ما أدّى إلى تولّي المجلس العسكري الحكم، مع تعليق النشاطات السياسية كلّها، لتبدأ بعدها عملية مدروسة من القمع والسجن والتعذيب، وتشويه كلّ من يُشكّل خطراً على حكمه، من أقطاب الحركات اليسارية والشيوعية، والمؤيّدة للخيار الاشتراكي. ثم تولّى الجنرال أوغيستو بينوشيه (1915 ـ 2006)، المدعوم أميركياً، الحكم رسمياً عام 1974، بعد تهيئة المجلس العسكري الظروف المؤاتية لمحو الخيار الديمقراطي الاشتراكي الناجح، كي لا ينتشر في المنطقة كنموذجٍ يُقتدى به.

حَدَث هذا في أوجّ الحرب الباردة. بعده، بدأت الأجهزة الأمنية، وأبرزها الجهاز الجديد للمخابرات التشيلية، في القضاء على كلّ من يعارض بينوشيه، تعذيباً وتصفية وسجناً وإخفاءً قسرياً، خاصة المثقفين والمتعاطفين مع الديمقراطية، فأصبحت أعوام حكمه (1973 ـ 1990) من أكثر الفترات رعباً ودموية وفتكاً بالتشيليين.

مقدّمة تاريخية مهمّة لفهم سياق "تشيلي 1976" (2022)، للتشيلية مانويلا مارتيلي، لانطلاقه من إفرازات تلك المرحلة، وما أنتجته من فوضى في الأعوام الأولى للحكم، التي تطلّبت قيادة البلد بيدٍ من حديد. هذا جعل بينوشيه يُشرعن القمع، بأبعاده وأطيافه وزواياه. اختارت مارتيلي (1983) عام 1976 فترةً زمنية لأحداث جديدها، لأنّه شاهدٌ على أكثر الفترات دموية وقمعاً، وعلى وجود مقاومات سرّية لشباب ومعارضين، واجهوا آلة القمع، فكان مصيرهم القتل والتصفية.

الفيلم مُحمّلٌ بالخوف والهلع والترقّب. هذه عواطف دفينة وظاهرة، مزروعة في كلّ زوايا القصّة، وموزّعة على الشخصيات بعقلانية، تماشياً مع سيناريو متماسك، كتبته مارتيلي مع أليخاندرا موفات. بالاضافة إلى المعالجة الذكية، والبناء الدرامي المحافظ على تماسك القصّة من البداية إلى الخاتمة، من دون أنْ يسقط في الرتابة، أو الإثارة الزائدة وغير العقلانية.

تُقرّر كارمن (ألين كوبنهايم) ترك العاصمة سانتياغو، إلى بيتها على الشاطئ، للوقوف على أشغال تهيئته. هناك، يقترب منها الكاهن بادري سانشيز (أوغو مِدينا)، صديق عائلتها، ويطلب منها خدمة غريبة: أنْ ترعى شاباً يُدعى إلياس (نيكولاس سِبولفِدا)، تعرّض لطلق ناري، بعد محاولته تنفيذ سرقة. بحسب رواية الكاهن، امتنع عن نقله إلى المستشفى كي لا يُقبض عليه، لأنّ عليه أحكاماً قضائية سابقة، ويُحتمل أنْ تكون عقوبته طويلة. لم ترفض كارمن هذا العمل الإنساني للكاهن، خاصّة أنّ لديها تجربة في الطبّ، الذي تعلّمته عند تطوّعها في الصليب الأحمر، فعالجته وتدبّرت له الأدوية لإنقاذه من الموت، رغم صعوبة الحصول عليها من دون وصفة. كما أنها لم تخبر زوجها، الطبيب ميغيل (أليخاندرو غويْك)، الذي يعمل في مستشفى كبير في سانتياغو، عن حالة الشاب وقصّته الحقيقية، كي يُعدّ لها الوصفة، مكتفيةً بإخباره بأنّ الحالة خاصة بفتاة حامل بطريقة غير شرعية. مع هذا، رفض كتابة الوصفة الطبية.

رغم هذا، تدبّرت أمورها، وبدأت رحلة العلاج. بعد ذلك، أحسّت أنّ إلياس، الشاب الصغير في السنّ واللطيف، لا يحمل سمات المجرم. عرفت منه أنّه يعمل في المقاومة السرية، وأنّ الكاهن لم يخبرها بهذا خوفاً من أنْ ترفض. عندها، بدأت كارمن مرحلة أخرى من الرعاية، تمثّلت بالتواصل مع زملائه السرّيين، لنقله من بيت الكاهن إلى مكان آخر أكثر سرية، فصارت تتنقلّ من مكان إلى آخر، في جوّ مليء بالخوف والرعب. في هذا كله، وجدت كارمن نفسها في قلب المقاومة، من دون أنْ تدري. ثم بدأت تحسّ أنّها مراقبة من أجهزة المخابرات، ما أثّر على أسرتها، خاصّة أحفادها الذين أهملتهم. أكثر من هذا، وَجَب عليها تحضير عيد ميلاد حفيدها الصغير، لكنْ تحدث أشياء لم تكن متوقّعة.

 

 

"تشيلي 1976" أول تجربة إخراجية لمانويلا مارتيلي، بعد اكتسابها خبرة طويلة في التمثيل، المهنة التي بدأتها في سنّ باكرة. تشاء الصدفة أنْ يكون أول فيلم مثّلت فيه دور البطولة، طفلةً، كان بعنوان "صديقي ماتوشكا/سانتياغو في التشيلي عام 1973" (2003)، لأندريه وود، أي الفترة الزمنية نفسها التي عالجتها في فيلمها الطويل كمخرجة. كأنّ أجواء وأحاسيس الخوف والفوضى والهلع التي عاشتها، في أول فيلمٍ لها كممثلة، أعادت اكتشافها وعيشها كمخرجة، ما يعكس أهمية المرحلة في حياتها، وحياة المثقفين والتشيليين.

نجحت مارتيلي في صنع فيلم جيّد، استجابت فيه لمعظم الشروط الجمالية الواجب توفرها في فيلمٍ روائي طويل. ورغم أنّ التجربة أولى، إلا أنّها ناضجة وضاجّة باللغة السينمائية، بدءاً من السيناريو المتماسك، مروراً بالمعالجة الإخراجية، واللمسة التي حافظ السيناريو فيها على انسجام عناصر العمل، وانتهاءً بالموضوع المُعقّد والمهمّ الذي تناولته.

استطاعت إظهار توجّه الفيلم، انطلاقاً من مقدّمته القوية، المتمثّلة في مشهد افتتاحي مُنعكس في شخصية كارمن، التي كانت في محلّ صناعة الدهان، حاملةً بيدها كتاباً، ومُشيرةً للصانع، في الوقت نفسه، إلى اللون الذي تريده. في تلك اللحظة، تُسمع ضجّة في الشارع، بسبب استنجاد وتوسّل امرأة تُختطف في الطريق. عندما خرجت كارمن، عثرت على فردة حذائها بجانب سيارتها. هذا يوحي أنّها لم تُمنح وقتاً لاسترجاع حذائها. نقل المشهد شعورَ الخوف والهلع إلى المتلقّي، موجّهاً إياه إلى ما يمكن العثور عليه في باقي التفاصيل، وهذا حدث فعلاً.

كما خلقت نهايةً بالقوّة نفسها للمشهد الافتتاحي: عندما ذهبت إلى بيت الكاهن، لتطمئنّ على إلياس، وجدت أشياء غرفته مبعثرة. سألت الخادمة عن ذلك، فأخبرتها أنّه قُتل، بينما نُفِيَ الكاهن إلى خارج البلد. حينها، أحسّت بالذنب، خاصّة أنّها مُراقبة، وأنّ أوراق سيارتها أُحضِرت، بحجّة أنّهم وجدوها مرمية في الشارع، أولئك الذين قالوا لها إنّ عليها أنْ تحذر، لأنّ الأوراق يمكن أنْ تقع، في المرة المقبلة، في أيادٍ أخرى، وهذا يُحمّلها مسؤولية.

إنّه تحذير مبطّن من الشرطة، التي عرفت بضلوعها في الأمر. عادت إلى المنزل للاحتفال بعيد ميلاد حفيدها مع الأسرة، حاملة كعكة معها، على وقع صوت الأغاني، ثم خرجت على وقع الدموع. في هذه الحالة، يمكن للأسرة أنْ تفهم الدموع كأنّها دموع فرح بالحفيد، لكنّها أصلاً دموع حسرة على إلياس والكاهن، وعلى غيرهما من ضحايا بينوشيه، الذين يُعدّون بالآلاف.

"تشيلي 1976" من الأفلام التي تعيد اكتشاف التاريخ بفنيّة طافحة، وتزرع الألم مع أثر رجعي لدى المتلقّي، حتى يحسّ بأوجاع من عاش تلك الفترة. هذا كلّه قدّمته مانويلا مارتيلي بجمالية، احترمت فيها أبعاد السينما وفتنتها، من دون إقحام نفسها في الخطابية الفجّة.

المساهمون