"بينوكيو" ديل تورو... الطفل الخشبي متأملاً تمثال المسيح

16 ديسمبر 2022
يبتعد الفيلم عن تقديم الدروس الأخلاقية النمطية (نتفليكس)
+ الخط -

يوصد غييرمو ديل تورو الأبواب على كائناته المخيفة، ويطلق العنان هذه المرة لأكثر أفكاره رقة وحساسية، عبر إعادة إنتاج حكاية "بينوكيو" الشهيرة، في نسخة فيلمية تحريكية من إنتاج "نتفليكس"، تتجاوز الساعتين من الرقص والغناء والحوارات المؤثرة، المستمدة من قصة المؤلف الإيطالي الكلاسيكي كارلو كولودي، والبعيدة عنها في آن.

يصطحب مروض الوحوش الأكثر شراسة في تاريخ الشاشة الكبيرة تيلدا سوينتون وديفيد برادلي وإيفان مكريغور معه في رحلته العاطفية هذه، تاركًا أمر وجهتها للطفل غريغوري مان، وهو مؤدي صوت "بينوكيو" في النسخة الناطقة بالإنكليزية التي أخرجها ديل تورو بالتشارك مع المخرج مارك غوستافسون، في الوقت نفسه الذي عمل فيه على كتابة وإخراج فيلم Nightmare Alley وسلسلة الرعب Guillermo del Toro's Cabinet of Curiosities.

أطلق ديل تورو وغوستافسون نسختهما عن "بينوكيو" على الرغم من وجود كمّ هائل من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تعالج القصة نفسها، أقدمها نفذته شركة ديزني عام 1940. لكن النسخة الجديدة تعد الأولى التي تقدم حكاية كولودي بتقنية التحريك، ما استلزم صناعة عدد من الدمى الخشبية لـ"بينوكيو"، أحدها يتجاوز حجمه حجم الإنسان البشري، وأخرى لا تتجاوز بطولها عدة ميليميترات، تناسبًا مع الإطارات السينمائية المتنوعة عبر الفيلم.

أما التجديد الأهم، فيأتي على صعيد القصة ومضمونها، إذ اتكأ ديل تورو، بالتشارك مع عدد من الكتّاب الآخرين، على كتاب كولودي الصادر عام 1883 كمرجع لموضوعات القصة الأساسية، لكنه نقل أحداث الفيلم إلى أوائل القرن العشرين، تحديدًا خلال حكم بينيتو موسوليني لإيطاليا ما بين 1922 و1943، حين طغى شبح الموت على أوروبا وهددت الفاشية شتى بقاعها.

أين كان يلعب الأطفال حين تجاوزت أعداد المقابر المدارس؟ وكيف يكبرون ويتعاملون مع الفقد والخسارات الحتمية خلال الحروب، حتى وإن كانوا، مثل بينوكيو، محصنون ضد الموت؟ جُبل "بينوكيو" بأحزان النجار العجوز"جيبّيتو" الذي لم يحتمل خسارة ابنه "كارلو" في قصف الحرب العالمية الأولى، فقرر بعد سنوات اقتلاع شجرة الصنوبر التي كان قد زرعها بنفسه فوق قبر ابنه ونحت دمية صغيرة من أخشابها، آملاً أن تعيد إليه ذكرى "كارلو" الراحل. وبالفعل، تفنى حياة، وتزهر أخرى، إذ تبث جنية متعاطفة مع "جيبيتو" الروح في نسيج اللحاء الصنوبري، وتجعل صرصاراً كان يسكن في قلب جذع الشجرة وكيلاً على حياة الولد الخشبي وحامياً لها.

مع إشراقة صباح اليوم التالي، تبدأ رحلة "بينوكيو" في المشاكسة وطرح الأسئلة وحب كل شيء، من دون الحاجة إلى فهمه، لكن الطفل الخشبي سرعان ما يشعر بالخذلان ممن حوله، ويسأل أباه متأملاً تمثال المسيح الخشبي في الكنيسة: "كلانا مصنوع من الخشب، لماذا يحبونه ويكرهونني؟". يسخر الأطفال من بنية "بينوكيو" الخام والمجردة، كمشاعره، ويشيرون إلى مساميره البارزة عوضاً عن المفاصل، ويخدعونه بالاقتراب من النار كي تلتهم قدميه، أما قادة الجيش فيريدون تحويله إلى جندي أبدي، يحيا ويموت مرات لا حصر لا في ساحات القتال، في حين يستغله منظم السيرك "كونت فولبي" (كريستوف والتز) لجني النقود والترفيه عن القادات الفاشية.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يصاغ فيلم "بينوكيو" بتساؤلات الأطفال، ويحمل كثيراً من براءتهم ومن مشاعرهم الدافئة ومغامراتهم الأولى في الحياة، لكن فيلم ديل تورو ليس فيلماً موجهًا للأطفال كما فعلت النسخ السابقة التي قدم غالبها دروساً أخلاقية نمطية، عبر الدعوة إلى نبذ الكذب والمشاكسة والعناد، وضرورة إخضاع تلك الصفات للصنفرة، كما لو أنها جزء مادي من جسد "بينوكيو" الخشبي.

بدلاً من العبر الخالصة والإيماءات الساذجة، يتأرجح فيلم ديل تورو بين ما هو وحشي ورقيق، ويحتفي بالعصيان والعشوائية وبخرق القواعد، ويسعى إلى تقديم نقاشات جادة حول الحياة والموت والأبدية، باحثاً في آليات الدفاع البشرية لمواجهة الوحدة، طوعية كانت أم مفروضة على أولئك الذين يرفضون ثوابت المجتمع ويسخرون من وجودها.

يطرح فيلم "بينوكيو" سؤالاً عما يعنيه أن يكون المرء "بشرياً حقيقياً"، ويتطرق إلى الروابط المتبادلة والمعقدة بين الآباء والأبناء من خلال ثلاث علاقات مختلفة أيضًا، الأولى هي علاقة "جيبيتو" بـ"بينوكيو"، فالأول يريد لابنه أن يغدو شيئاً آخر عما هو عليه، أي صورة عن كارلو الراحل المحب للعلم والملتزم بقواعد الانضباط، في حين يريد الأخير أن يحيا كما يحلو له، من دون عواقب أو تفكير يدفعه إلى الجبن.

أما العلاقة الثانية فهي بين القائد العسكري الفاشي "بوديستا" وابنه "كاندلويك"، وفيها يحاول الأب السيطرة على ابنه وإجباره على أن يغدو جندياً، وليس ابناً فحسب، فارضاً عليه الأيديولوجية الفاشية لتلك المرحلة، إلى حد يدفعه إلى إطلاق النار عليه حين يرفض الخضوع لمعتقداته.

أما مدير الحلبة "كونت فولبي" وخادمه القرد "سباتاتورا"، والذي تؤدي همهماته المضحكة الممثلة كيت بلانشيت ببراعة، فيعبران بعلاقتهما غير المتكافئة عن أنماط الاستغلال العاطفي، وتلك الروابط غير الصحية التي قد تنشأ بين الفرد وذويه، وتجبره على الثبات في مكانه، بدلاً من المضي قدماً في رحلة النمو الفردي.

كتب ديل تورو، الملقب بصانع الخرافة المعاصرة، نصوص معظم كلمات الأغاني الساحرة المقدمة عبر الفيلم، وترك أمر تلحينها وتوزيعها للمؤلف الموسيقي الفيلمي أليكساندر ديبلات، فقدم الأخير قصة موازية عبر الموسيقى، تدعم النص وتحركه إلى الأمام، مستخدماً تشكيلة واسعة من الأنماط والآلات الموسيقية والأداءات الغنائية المنفردة والجماعية لتلك الغاية.

ولعل الثناء على تكامل المشهد البصري غدا بديهياً عند الحديث عن نتاجات ديل تورو للشاشة، فهو دائم الحرص على تحقيق الإذهال البصري والسمعي، مستخدماً كل ما في حيلته من خدع وتقنيات متطورة، إذ يقدم صورة مشبعة بالضوء واللون والتفاصيل، ويضبط الإضاءة بوصفها راوياً إضافياً للأحداث، وكأن الضوء هو التنوير والكشف عن الحقيقة وحجبها أحياناً، وصولاً إلى التصميم المذهل لدمى الشخصيات التي تمنح بانقلاباتها الحركية والحجمية نكهة خاصة، لا نجدها في الرسوم المتحركة المرسومة باليد.

استهلم ديل تورو وغوستافسون سينوغرافيا الفيلم وشخصياته من أعمال الفنان غريس غريملي الذي منحنا كتابه الصوري لعام 2003 تأويلًا مختلفًا لأعمال كولودي المكتوبة، فبدلًا من رسم الأطراف الرخوة والوجه المستدير البشري لـ"بينوكيو"، كما في نسخة "ديزني"، ينحت غريملي "بينوكيو" في أبسط تصميم ممكن، تاركًا صنعته اليدوية المتواضعة بارزة بشكل واضح، من دون ثياب تغطي "عيوب" جسده أو تحاول جعله أكثر قرباً للهيئة البشرية واستِساغة لذائقتها.

يكثر النقاش حول كون نسخة "بينوكيو" الجديدة، هي الأجمل والأكثر ابتكاراً من بين سابقاتها، حتى أن بعضهم يعتبرها واحدة من أفضل أعمال التحريك المعاصرة على الإطلاق، مع أنها أولى تجارب المخرج ذي الثمانية والخمسين عاماً في تقنية Stop motion خلال مسيرته كصانع أفلام يعمل منذ أكثر من ثلاثين عاماً. يجتاز ديل تورو تحدياً جديداً بامتياز، ويجعلنا نتساءل بحماس عما ستكون مغامرته المقبلة.

المساهمون