بينوشيه مصّاص دماء؟ إنّها رواية بابلو لارين

06 أكتوبر 2023
بابلو لارين: كيف يفوز سيناريو كلّه "فلاش باك" بجائزة السيناريو؟ (أليسّاندرا بِنِديتّي/Gett
+ الخط -

يدخل الجنرال أوغوستو بينوشيه (خايمي فادِل) متحفاً لتماثيل الشخصيات التاريخية. يقف إلى جانب مدفع. يتقدّم، ثم يقف بين التماثيل لتخليد نفسه ضد التاريخ. في مكان آخر، يُقطِّع أفراد عائلة الديكتاتور بعضهم بعضاً، بسبب الثروات المسروقة، كي يعيشوا سعداء أحراراً، ويفتخرون بأنّ والدهم سارقٌ أقلّ من الآخرين. ممتعةٌ رؤية أفراد عائلة يأكلون، يفترسون ما لم يكدحوا لأجله.

هذا حاصلٌ في "الكونت" (2023)، للتشيلي بابلو لارين (نتفليكس)، الفائز بجائزة أفضل سيناريو، نالها غييرمو كالدِرُن، في الدورة الـ80 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي".

ما الذي يُبرّر حصول فيلمٍ ـ فيه شخصيات جاهزة واستجوابات كثيرة باردة، تُعطِّل الحدث، وفيه تعليق إذاعي طويل ـ على جائزة السيناريو؟

تُقال الأحداث في "الكونت"، ولا تُرى. تُربط الأمكنة البعيدة، والأحداث غير المتصلة زمنياً، بالتعليق الذي تتلوه رئيسة وزراء المملكة المتحدّة مارغريت تاتشر، حليفة الجنرال. تعليق طويل في سيناريو مسرحي غير روائي، فيه شخصيات لا تتطوّر، وحوارات أكثر من الأحداث. الأدهى أنّه يحتاج إلى تعليقٍ إذاعي، ليكون مفهوماً. لا توجد صلة سببية بصرية بين اللقطات. لو أنّ التعليق الصوتي يُحذَف، لتلاشت الصلة بين اللقطات. ليس صدفة تصريح لارين، المتمثّل بشُكره "نتفليكس"، مُموّلة فيلمٍ كهذا.

كيف يفوز سيناريو، كلّه "فلاش باك"، بجائزة السيناريو؟ لأنّ أعضاء لجنة التحكيم يعشقون "سينما المؤلف"، ويكرهون الحكايات الخطّية المُشوّقة، التي لا يستطيعون تأليفها. فيلمٌ كهذا يُمكنه الفوز بالجوائز كلّها، في الدوائر المغلقة. لكنْ، مشكوكٌ أنْ يُعرض في الصالات. هذا يُناسب ذوق الـ"سينيفيليين"، عن جنرال سفاح عدوّ اليسار في أميركا الجنوبية. جُلّ الـ"سينيفيليين" في العالم يساريون.

يُقدّم الفيلم سفاحاً، يفتخر بأنّه ليس ديكتاتوراً أو لصّاً. يحكي ما جرى، من وجهة نظره: "طلبوا منّي التخلص من سلفادور ألليندي، الذي كان رهينة لدى الشيوعيين، عشّاق التأميم والسلاح. فعلتُ ذلك. ثم أحاط بي رجال أعمال يمينيّون، يستخدمون عطراً جيّداً. طلبوا مني أنْ أبيع لهم شركات حكومية بثمن بخس. فعلتُ ذلك. ثم باعوا الشركات لحكومتي بثمن مرتفع. صرت ثرياً جداً، لأنّي هزمت الشيوعية".

حين تجاوز الجنرال السفاح 90 عاماً من عمره، مَلّ العيش. شعر بالعار حين اتُّهم بالسرقة، وليس حين اتُّهم بقتل الشيوعيين الفوضويين. يريد أنْ يموت عاجلاً، ليتخلّص من عار سرقة المال. هذا العار سبب الصراع في الفيلم.

أين المال؟

ذاكرة الضابط ضعيفة. لا بُدّ من طُعمٍ لاستخراج المال. كيف؟ هناك خطط. بمجرّد الحديث عن المال، يصير الجميع عقلاء واستراتيجيين. يتحمّل الجنرال عناء العيش في بلدٍ يحتقره. يستعيد هيبته وقوته أمام نفسه، حين يرتدي بزّته، ويخرج للصيد. حين يمتصّ دم غيره، يتجدّد دمه وجسده. يمتصّ دماء الأغراب، ويعلن حبّه لأولاده، ويحميهم. لم يخطر بباله قطّ مصير صغار الآخرين، كلبوءة تفترس صغار الشعر في "كليلة ودمنة" (مَن لا يدع ضرَّ غيره لما يُصيبه من الضّر). تصل راهبة مُحاسِبة، تحقّق في فواتير الفساد. ترقي (من الرقية) الجنرال، كي يتذكر مكان أمواله. ينتعش اللواء بالحميمية الصبيانية. يتقوّى بدماء قلوب ضحاياه. تتساءل المؤمنة: إذا كان الشيطان مؤذياً إلى هذا الحدّ، لماذا يسمح له الله بمواصلة العيش؟

يُعرض "الكونت" على "نتفليكس" بعد نصف قرن من انقلاب 11 سبتمبر/ أيلول 1973. في البحث عن هذا التاريخ في "غوغل"، يبرز اسم هنري كيسنجر وسالفدور ألليندي، وفيلم غير مُكتمل، اسمه "الواقعية الاشتراكية El realismo socialista"، الذي أنجزه التشيلي راوول رويز، صديق ألليندي، عام 1973. هذا يجعل "غوغل" "سينيفيلياً"، يحفظ عناوين الأفلام.

مَلَك الفيلم قوّته من معرفة المشاهدين بقصة الماضي الدموي للجنرال بينوشيه. هذا يحرّر بابلو لارين من عبء عرض المعلومات، أو تفسيرها. النصف الثاني أقوى من الأول. الشرّ أمتع من الخير في الحكايات.

رصد لارين عزلة الشخصيات في صمتها وزواياها المعتمة. حينها، يظهر كيف تذلّ الشيخوخة جنون العظمة، وتجعلها مسخرة. يشكر اللواء خدّامه الأوفياء بعَضّهم، فيصيرون مصّاصي دماء مثله، ويشكرونه على صنيعه، مُعلنين ولاء متيناً له. إعجاب زوجته به كبيرٌ، إلى درجة أنّها تريد أن تكون وحشاً مثله.

يجمع السيناريو أنوية سردية من أزمنة مختلفة، تتشابك في ما بينها، لأنّ لها محوراً واحداً. تتلاقح الحكايات. واقع سحري دموي، يليق بتاريخ أميركا اللاتينية.

يشتهي اللواء عصير قلوب معارضيه. ما المشترك؟ كان الكونت دراكولا، أي التنين، يحارب الهراطقة، بينما يحارب بينوشيه الشيوعيين لصالح الرأسماليين. هكذا يُموقع عنوان الفيلم اللواء بينوشيه في سلالة مشهورة من الحكّام، مصّاصي الدماء اللقطاء. كيف يتصرّف اللقيط حين يصير ضابطاً يملك سلطة؟ يلعق الكونت دم النبيلة ماري أنطوانيت، لأنّه نموذج له. يملك قوة خارقة. يحمل خنجراً، رمز الغدر. القتل اليدوي أمتع. بعد كلّ رحلة صيد قلوب، يعتني بشدّة بنظافة فمه من الدم. أيّ أناقة. ضمير الكونت مرتاح، فبحسب الرواية الرسمية، انتحر سلفادور ألليندي ببندقية، أهداها له تشي غيفارا. هذه رواية إدانة ذكية لتفسير مصير الرئيس، صديق الشاعر بابلو نيرودا.

يكره الكونت الثورات. كَثُر كارهوه لأنّه أسقط اشتراكياً، كان صديقاً لشاعر. للحكّام الدمويين سلالة عريقة من مجهولي الأب. هذه محاولة متخلّفة لتفسير الشرّ بالولادة، لا بالبيئة والسياق. كان الجنرال الديكتاتور مصّاص دماء حقيقياً لا خيالياً. مهما كان العنف في الفيلم، لن يبلغ أبداً ما جرى ويجري عام 2023 على أيدي الجنرالات.

يستمد سيناريو "الكونت" قوّته من السياق الحالي للجنرالات في أوكرانيا والسودان وليبيا. الواقع أعنف من الخيال. يمكن لهذا العامل أنْ يؤثّر على قرارات لجان تحكيم المهرجانات.

المساهمون