تتلاحق أحداث بيروت، وغالبيتها الساحقة مأساوية. تزداد الأمور تعقيداً. لا حلول ولا آفاق مفتوحة على خلاصٍ، وإنْ يكن مؤقّتاً. الانهيارات تتفنّن في تحقيق أفعالها. كلّ شيءٍ مُعطّل. العزلة تدفع إلى خياراتٍ، يُفرض على المرء التأقلم معها. لا أفكار ثابتة ولا تأمّلات واحدة. تتبدّل الأمور يومياً، وأحياناً في كلّ لحظة. هذا مُتعِب. هذا يُحطّم كلّ أملٍ بوقتٍ من أمانٍ مفقود، وإنْ يكن الأمل وهماً. هذا يُشوِّه معنى العزلة، إنْ تُفرض العزلة على المرء، بدلاً من أنْ يختارها بإرادته. العزلة في منزلٍ تمنح مساحة أمانٍ قليل، وهذا كافٍ، فالخارج ملعون وعنيفٌ وقاسٍ.
تتطلّب العزلة مفردات عيش، تفرض معها متطلّبات، بعضها مرتبطٍ بالمهنة. الصالات السينمائية في لبنان مقفلة، ككلّ شيء آخر، في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والاجتماع. أفلامٌ لبنانية عدّة تُنجَز بين نهاية 2020 وبداية 2021، يُعرض بعضها في مهرجاناتٍ دولية وعربية في أوروبا، لكنّها غير متمكّنةٍ من بلوغ مُشاهِد لبناني واحد، رغم قلّة عدد المشاهدين اللبنانيين للأفلام اللبنانية عامة. المُشاهدة الافتراضية حاصلةٌ. مهرجانات دولية وعربية تميل، أكثر فأكثر، إلى دوراتٍ افتراضية، مع محاولة إيجاد فسحةٍ للواقعيّ، خصوصاً تلك المُقامة في أوروبا.
بيروت مُغلقة. ضجيج الحياة في نهاراتها أشبه بنعيق بومٍ فوق جثث عفنة، تنتظر دَفْناً غير حاصلٍ، لا الآن ولا لاحقاً. ليل المدينة كابوسٌ يتفنّن في ابتكار لعناته. نهار المدينة موحش، والأمكنة القليلة المفتوحة تمتلئ، يوماً تلو آخر، بشقاء وقهرٍ ومخاوف وتعب. الصالات اللبنانية مُغلقة، وبعض الاختراقات نادرٌ وقليل. لا سينما في المدينة. لا سينما في شارعٍ يُعرف، سابقاً، بأجمل شوارع المدينة، وبكونه نبضها. لا شاشات ولا ملصقات ولا مقاعد، ولا أضواء تمهِّد لأحلى عتمةٍ. العزلة المنزلية راحة وأمانٌ، لكنّ استمرارها يُثْقِل المرء بمزيدٍ من خيباتٍ ووحدة ومَواجع وأرق.
مُشاهدة أفلامٍ عبر روابط ومواقع تُلبّي حاجة المهتمّ إلى المتابعة والعمل. هذا جيّدٌ. هذا ضروريّ. لكنّ المهتمّ يسأل: أيُشكِّل اعتياد مُشاهدة كهذه عائقاً أمام تواصل مختلف مع السينما، أم أنّ المُشاهدة نفسها أفضل وأكثر انسجاماً مع رغبته في ابتعادٍ عن آخرين، يُشاركونه المُشاهدة في صالة واحدة؟ أينسى المهتمّ إزعاجَ مُتفرّجين كثيرين في مُشاهدات تجارية في صالة واحدة؟ أينسى تفوّق زملاء مهنة عليهم في ممارسة الإزعاج، في مُشاهدات صحافية سابقة، في صالة معتمة؟ المُشاهدة في العزلة المنزلية صائبةٌ. التوق إلى طقوسٍ قديمة ينعدم كلّياً، مع تبدّد كلّ رغبة في مُشاركةٍ تتعطّل مع زملاء ومتفرّجين، غير مستحقّين بهاء صالة معتمة وفضاءاتها.
هذا كلامٌ مُكرّر، أقلّه منذ تفشّي وباء كورونا في العالم، مطلع عام 2020. لكنّ بيروت ضاغطةٌ، وضغطها قاتل. الحاجة إلى متنفّسٍ خارجها يحول دونه إغلاقٌ تام في البلد وخارجه. الرغبة في سفرٍ إلى مهرجانٍ سينمائيّ ـ في لحظة ظهور نوع جديد من كورونا، أو بدء مرحلة جديدة من مراحله غير المنتهية، كما يبدو ـ تتعطّل أمام إغلاق مطاراتٍ أوروبية كثيرة، بينما يُقال إنّ إقامة الدورة الـ74 لمهرجان "كانّ" السينمائي واقعياً، بين 6 و17 يوليو/ تموز 2021، ربما تُسهِّل الحصول على تأشيراتٍ لمحتاجين إليها.
هذا مؤشِّر جيّد، رغم صعوبة السفر، فلبنان خاضعٌ لابتزازٍ مصرفيّ، وودائع كثيرين منهوبةٌ، والتحويلات بالعملة الأميركية أو الأوروبية صعبٌة، إنْ لم تكن مستحيلة. الدورة المُنتظرة لمهرجان "كانّ"، المُقامة في وقتٍ لاحقٍ على الموعد السنوي المعتاد (مايو/ أيار)، تتطلّب شروطاً يُفترض بالجميع التزامها، فالوباء متفشٍّ، وفرنسا تخضع لإغلاق تام بين حينٍ وآخر، والنقاش صاخبٌ حول علاقة السلطة الرسمية بالثقافة والفنون، وحول كيفية دعم الأولى لها. الخبر، الذي يُنتظر تحقّقه فعلياً، يقول إنّ صالات فرنسية ستُفتح في 19 مايو 2021. الوقت قريبٌ. النتيجة تظهر بعد أيام.
أفلامٌ لبنانية جديدة غير متمكّنةٍ من بلوغ مكانها اللبنانيّ، بعد عروضٍ أولى لبعضها في الدورة الـ71 للـ"برليناله"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021: "دفاتر مايا" لجوانا حاجي توما وخليل جريج، و"ع أمل تجي" لجورج ـ بيتر بربري، و"أعنف حبّ" لإليان الراهب. في الدورة الـ11 لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)"، المُقامة افتراضياً أيضاً بين 6 و11 إبريل/ نيسان 2021، يُعرض "قِلّتلّك خلص" لإيلي خليفة. هذا يختلف تماماً عن عرضٍ لبنانيّ مطلوبٍ. الصالات مغلقة. الانتظار ربما يكون طويلاً. المُشاهدة الافتراضية صائبة، ولعلّها تكون الوحيدة المتاحة، في أشهرٍ (أو ربما أعوامٍ) عدّة مقبلة.
مخرجو هذه الأفلام (وأفلام أخرى أيضاً) ومخرجاتها يُفضّلون دائماً عرضاً في صالةٍ ذات شاشةٍ كبيرة. يشتغلون أشهراً طويلة في إنجاز مشاريع لهم. يجهدون في تقديم الأفضل، معالجةً وتنفيذاً وجماليات؛ وفي تحقيق الأهمّ، تقنياً ودرامياً ولغة. يقول بعضهم إنّ وقتاً طويلاً يمضونه في اشتغالٍ على الصوت والتوليف، وعلى إشاعة مناخٍ بصريّ يرونه الأجمل والأحسن لما يبغون قوله أو سرده أو متابعته. لذا، يُصرّون على صالةٍ تمتلك تقنيات حديثة، لتبيان جهدٍ يبذلونه، واشتغالٍ يطمحون إلى الأكمل فيه.
لكنّ الصالات مُغلقة، والبلد مُنهار، والمستقبل مَقتول. هذا كلّه لا وقتَ نهائياً معروفاً له. فهل يكون الافتراضيّ حلاًّ دائماً، في السينما، وفي غيرها أيضاً؟