بيرم التونسي... أغنيات تعبر المنافي

08 يناير 2021
كتب عدداً من أغاني أم كلثوم مثل "الآهات" و"شمس الأصيل" (عصام عزّوز)
+ الخط -

في لقاء سري رتبه الشيخ زكريا أحمد، قابلت أم كلثوم الشاعر المتخفي بيرم التونسي سنة 1941، واتفقا على التعاون بينهما. كان اللقاء بداية للعديد من الأعمال الناجحة التي لا تزال الجماهير ترددها، وقد ظنت الأجيال اللاحقة أن بيرم التونسي ليس سوى شاعر "الآهات" و"الحب كده" وغيرها... من دون أن تعرف أن آهات بيرم السياسية والاجتماعية كانت لا تقل عن آهات الغزل والوجد؛ إذ عاش الرجل مناضلاً داخل مصر وبين المنافي.

كان بيرم آنذاك مطارداً متخفياً، بعيداً عن الأنظار التي تبحث عنه بعد أن دخل إلى مصر متسللاً سنة 1940، بعد 20 سنة قضاها من منفى إلى منفى. فبيرم الذي أنشأ صحيفة "المسلة"، أخذ على عاتقه الدفاع عن حقوق الشعب المصري في الحرية والعدالة والمساواة. وفي أثناء ثورة 1919 وقف موقفاً حاداً من مفتي مصر الشيخ محمد بخيت، لموقفه السلبي من سعد زغلول، انتهت بوصف المفتي له بأنه كافر وزنديق. لم يعبأ بيرم بذلك، وصعّد من هجومه على أعوان الإنكليز، بداية من السلطان وحاشيته وأقاربه، إلى أن وصل إلى العدد (13) من المسلة وفيه قصيدة هجاء للسلطان فؤاد الأول الذي أغلق الصحيفة إثر ذلك، فأصدر بيرم صحيفة جديدة أسماها "الخازوق"، نَشر في عددها الوحيد مقالاً لاذعاً لمحمود خيري باشا، زوج الأميرة فوقية بنت فؤاد.

وفي تلك الأثناء، كانت إحدى قصائده الهجائية قد ذاع صيتها بين الناس وأخذوا ينشدونها، وفيها يسب فؤاد الفاسد وابنه فاروق ويصفه بأنه "ابن حرام"، وفيها: "فاروق فارقنا بلا نيلة. دي مصر مش عايزة رذيلة". أمر فؤاد الأول بالقبض على بيرم ونفيه إلى خارج البلاد، باعتباره لا يحمل الجنسية المصرية، فداهم البوليس السياسي مقر إقامته، وكان مع البوليس مندوب بريطاني وآخر فرنسي، وقد اصطحبوه في قطار متجه إلى الإسكندرية، ثم وضعوه في سفينة متجهة إلى تونس في يوم 25 أغسطس/ آب 1920.

مع الثورة

كان الشعور الوطني معادياً للأسرة العلوية لارتباطها بالإنكليز، وكانت قصائد بيرم الفصحى وأزجاله يتلقفها الناس من شمال مصر إلى جنوبها متزامنة مع أغاني سيد درويش الوطنية، وكان وقوفه إلى جانب الحركة الوطنية ومطالبها وصولاً إلى ثورة 1919 واضحاً. يقول بيرم: "كنت مستعداً بالفطرة للتمرد على البيئة القذرة التي أعيش بين ظهرانيها، وأرى عيوبها الاجتماعية والأمراض المتفشية فيها، فأخذت أنظم الزجل في بعض الحالات، وأنتقد بعض التصرفات، وفي نفسي حنق شديد على المجتمع الذي يحيا في جو خانق من الاحتلال الإنكليزي، وفي أعماقي ثورة عارمة على الذين يعملون على أن يظل الجهل والفقر سائدين بيننا إلى أبد الآبدين".

لقد كان مدركاً بوضوح دور الاحتلال في تأخر الوطن والإنسان، ومدركاً أيضاً العامل الاقتصادي وانعدام المساواة بين الناس في تدمير المجتمع

لقد كان مدركاً بوضوح دور الاحتلال في تأخر الوطن والإنسان، ومدركاً أيضاً العامل الاقتصادي وانعدام المساواة بين الناس في تدمير المجتمع. كان بيرم صديقاً حميماً لسيد درويش، وجمع بينهما العديد من الأعمال الوطنية، وألف العديد من الأعمال المسرحية والأوبريتات والأغاني التي قام درويش بتلحينها وغنائها. ومن بينها مسرحية "شهوزاد" وهو اسم مستوحىً من الشهوات المفرطة للعائلة الحاكمة، وأوبريت "دوقة جيرولستين الكبيرة"، وهو أوبريت مقتبس من الفرنسية، وهو الذي تضمن الأغنية الشهيرة لسيد درويش: "أنا المصري كريم العنصرين".

المجلس البلدي

في فترة شبابه المبكرة، عرف بيرم بين الناس باسم شاعر المجلس البلدي، حيث ارتبط بالجماهير، وتبنى قضاياها ووقف إلى جانب الشعب ضد المجلس البلدي الذي كان يسيطر عليه الأجانب في الإسكندرية، فنظم قصيدته المشهورة التي يقول مطلعها: إذا الرغيفُ أتى فالنصفُ آكلُه/ والنصفُ أتركُه للمجلسِ البلدي... وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا/ في الصَّيفِ إلا كسوتُ المجلس البلدي.

ألهب بهذه القصيدة حماسة الجماهير التي راحت ترددها في كل مكان، فذاعت وانتشرت وتجاوبت أصداؤها من أقصى مصر إلى أقصاها، كما كانت تسري وتنتشر ألحان سيد درويش في هذه الفترة. يقول طاهر أبو فاشا عن قصيدة المجلس البلدي إنها كانت من بواكير بيرم الشاب، وليست من أفضل ما قاله. لكنها أحدثت دوياً شديداً، وكان لها صدىً بعيد، فقد وقعت على الجرح، وأصابت ما في نفوس الجماهير الذين وجدوا فيها متنفساً لمعاناتهم من إرهاق المجلس البلدي، ولهذا راجت على ألسنة الناس من مختلف الفئات والطبقات، فحفظوها وتناشدوها، وكتبها الخطاطون في لوحات علقت في الأماكن العامة، وأنشدها المنشدون على الذكر في مولد أبي العباس، وقام بتشطيرها بعض الشعراء، وخمّسها بعضهم، وادّعاها أكثر من شاعر. أرسلها بيرم إلى جريدة الأهالي بالإسكندرية موقعة باسم بيرم التونسي.

وتساءل الناس: من بيرم هذا؟ وكانت تلك القصيدة مورداً من موارد رزقه آنذاك، فكلما عضته الحاجة طبع منها بضع مئات، وراح يوزعها بنفسه، فيتخطفها منه الناس، وكان يكرر طبعها كلما احتاج، فيتجمع له من ذلك ما يرد عنه شبع الجوع. أحزان المنفى عندما وصل بيرم إلى منفاه في تونس، بدأ رحلة معاناة طويلة من الشقاء بسبب اضطراره إلى أعمال جسدية شاقة، وبسبب بعده عن وطنه وأسرته، لكن مواقفه الوطنية لم تتغير، فلم يتوقف عن مواجهة الاستبداد والمستبدين.

وفي سنة 1922 يصبح السلطان فؤاد الأول ملكاً على مصر، فيقول قصيدته: ولما عدمنا بمصر الملوك/ جابوك الإنكليز يا فؤاد قعّدوك... تمثل على العرش دور الملوك/ وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون... بذلنا ولسه بنبذل نفوس/ وقلنا عسى الله يزول الكابوس... ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس/ لا مصر استقلت ولا يحزنون.

 بعد فترة، ينتقل بيرم إلى فرنسا ويرتبط بالجاليات العربية هناك، فينصهر مع مطالبها بالحرية والعدالة، ويصدر بعض الصحف التي تهاجم الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي ويفضح أعوانهم، ويدافع عن قضايا التحرر في مصر وتونس والجزائر وسورية وليبيا. وهنا تقرر السلطات الفرنسية نفيه إلى تونس مرة أخرى. وحين يصل إليها يقف مباشرة في صف المقاومين للاستعمار بصورة أزعجت المحتل الفرنسي الذي يقرر نفيه مرة جديدة لكن هذه المرة إلى الشام.

في دمشق، يستمر في مقاومته الشرسة بالمقالات والأشعار والأزجال، فيقبض عليه المعتمد الفرنسي في دمشق ويأمر بنفيه مرة أخرى إلى فرنسا

وفي دمشق، يستمر في مقاومته الشرسة بالمقالات والأشعار والأزجال، فيقبض عليه المعتمد الفرنسي في دمشق ويأمر بنفيه مرة أخرى إلى فرنسا في سفينة تنقله من ميناء اللاذقية إلى مارسيليا مروراً بالإسكندرية. لكن السفينة تتوقف في بورسعيد لتتزود بالوقود، فينظر بيرم إلى الأرض ويبكي، ليظهر أحد البمبوطية الذي تلفت انتباهه دموع بيرم، يذهب إليه ويدور بينهما حوار قصير، بعدها يُرى بيرم والبمبوطي يسيران جنباً إلى جنب في ثبات إلى خارج السفينة نحو الشاطئ. كانت حيلة ماكرة من البومبوطي لتهريب بيرم، حيث يظن الجنود أنهما زميلان عائدان للميناء، فيفلت من قبضتهم، ليخرج بيرم من الميناء متسللاً إلى القاهرة سنة 1940.

لقد قضى بيرم زهرة شبابه مطارداً يحاول الرجوع فيفشل، ويطلب العودة فيرفض، وقد تخلى عنه أصدقاؤه.

وروى بمرارة في مذكراته أن أحداً من هؤلاء الوطنيين من رفقاء النضال لم يفكر في أن يطرق باب أطفاله ليطمئن عليهم، منذ سيق إلى المنفى. وكان من أزجال تلك الفترة: عطشان يا صبايا/ عطشان يا مصريين... عطشان والنيل في بلادكم/ متعكر مليان طين... ولا نهر الرين يرويني/ ولا مية نهر السين... ودموع العين ما بتروي/ نار القلب الحزين... دا سبع حكومات وأنا وحدي/ اتهموني. أشكي لمين؟!".

مع أم كلثوم

غنت أم كلثوم لبيرم التونسي لأول مرة سنة 1941 "أنا وانت"، بعدها غنت له: كل الأحبة، إيه اسمي الحب، حلم، أنا في انتظارك، الأوله في الغرام، حبيبي يسعد أوقاته، أهل الهوى، شمس الأصيل، الحب كده، القلب يعشق كل جميل، اكتب لي من غير تأخير، البدر أهو نور، أنا ليه أجاسر وأعاتبك، وفي أوان الورد ابتدا حبي، يا قلبي ياما تميل بنظرة، حيرانة ليه يا دموعي، صوت السلام، والآهات... وغيرها.

كذلك غنى له مطربون آخرون مثل محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش ووردة الجزائرية وغيرهم. ظلت أوضاع بيرم التونسي غير مستقرة إلى أن قامت ثورة يوليو، فحصل على الجنسية المصرية عام 1954، بالرغم من أنه من مواليد الإسكندرية. ولكنه رحل عن عمر 67 سنة يوم 5 يناير/ كانون الثاني 1961. تاركاً تراثاً إبداعياً ونضالياً عظيماً تعبّر عنه أشعاره وأزجاله ومسرحياته ومقاماته ومقالاته.

المساهمون