بيتٌ قديمٌ في القدس. تصميمه مُرتكز على تراثٍ معماري عربي قديم. طابقان وغرف عدّة، معظمها يبقى فارغاً. حديقة. بوابّة حديدية، والوصول إلى المدخل الرئيسي للبيت يحتاج إلى وقتٍ قليل. بيتٌ جميلٌ، يصعب تحديد هويته/جنسيته، في لحظةٍ أولى. لكنّ معماره موائمٌ لمعمار عربي/شرق أوسطي. هذا كلّه يأتي بعيداً عن إسقاطاتٍ وتنظيرات وفذلكة كلامية. جمال البيت أساسيّ، وظهوره في لقطةٍ أولى مُثير للانتباه والدهشة، ودافعٌ إلى مواكبة حكايةٍ، تتبلور في البيت نفسه، وفي حديقته أيضاً، قبل أنْ تخرج إلى مساحةٍ أوسع، في فلسطين أولاً وأساساً.
بيتٌ قديمٌ، سيكون عنواناً لفيلمٍ جديدٍ، للفلسطيني مؤيد عليان: "بيتٌ في القدس" (2022)، بعد "الحب والسرقة وأشياء أخرى" (2015)، و"التقارير حول سارة وسليم" (2018). ظاهر الحكاية عاديٌّ للغاية، والبداية تكثيفُ لهذا الظاهر: رجلٌ ومُراهِقة يصلان إلى هذا البيت، ورجلٌ آخر، يتحدّث باللغة الإنكليزية معهما، يستقبلهما ويُدخلهما إليه، ويُخبرهما أنّه أنجز ترتيبه وتنظيفه، وتهيئته لإقامتهما/سكنهما فيه. لاحقاً، بعد مرور وقتٍ، يتبيّن أنّ والد الرجل الإنكليزي اليهودي، القادم إلى البيت رفقة ابنته المُراهِقة، يغتنم فرصة تدنّي أسعار العقارات في القدس، في ستينيات القرن الـ20، فيشتري المنزل من جهةٍ ما.
البداية نفسها تكشف مسألةً أخرى. المراهِقة ريبيكا (مايلي لوك) تعاني مأزقاً نفسياً خطراً، فهي "مُصرّةٌ" (بشكلٍ لاواعٍ) على إنكار وفاة والدتها رايتشل (ريبيكا كالدر) في حادث سيارة، علماً أنّها كانت متواجدةٌ معها لحظة الحادث. قرار والدها مايكل شابيرو (جوني هاريس)، المتمثّل بمغادرة بريطانيا إلى القدس، منبثقٌ من تفكيرٍ يقول إنّ تغيير "المكان" يُمكن أنْ يُساعد على تغيير حالةٍ تعانيها الصبيّة. البيت مُلكٌ لمايكل، والمجيء إلى القدس هادفٌ إلى تغيير جذري في نفوسٍ وتفكيرٍ ومشاعر، كأنّه (المجيء) علاجٌ مطلوبٌ وضروري ومُلحّ.
هذا كلّه يصنع بداياتٍ، تتوزّع على الوصول إلى البيت، واستلامه، وبدء حياةٍ يومية فيه، وفي محيطه. مايكل يُرافق ابنته إلى "مدرسةٍ صيفية" لتغيير مزاجها ونفسيّتها، ولتعلّم اللغة العبرية، ولاكتشاف مدينةٍ/بلدٍ لهما علاقة بتاريخٍ عائليّ. هذا كلّه عاديّ، ومشغول بأسلوبٍ عاديّ ومحترف. تقديم الشخصيتين الأساسيتين (مايكل وريبيكا)، والبيت ومحيطه، مسائل عادية أيضاً، ومُقدَّمة بشكلٍ بسيط ومريح. هذا كلّه سابقٌ على لحظةٍ أساسية، ستُبدِّل كلّ شيءٍ، درامياً وبصرياً، وبالنسبة إلى النوع السينمائي المُعْتَمَد. لحظةٌ واحدة، تتمثّل بعثور ريبيكا على دميةٍ في بئر الحديقة، والدمية تُصبح، فور خروجها من البئر، "كابوساً"، يُذكّر بتقنيات أفلام التشويق/الرعب، المشغولة بحِرفية سينمائية مقبولة.
لكنّ الكابوس ليس كابوساً، إذْ يتحوّل بدوره إلى سرديّة فلسطينية، تبدأ في "نكبة 48"، وتذهب إلى حيّزٍ مطلوبٍ لمصالحةٍ مع الذات، ولاغتسالٍ من أدران راهنٍ، وثقل ماضٍ، رغم الاختلاف الجذري بين راهن ريبيكا، المثقل بإنكار الموت (موت والدتها)، وماضي الدمية، التي تُصبح رشا (شهرزاد مخول فارل)، المليء بخرابٍ وموتٍ وخوفٍ وهروبٍ وانتظارٍ وقلقٍ. رشا الصغيرة تنتظر عودة والدتها إلى البيت/البئر لإنقاذها من "مخاطر الخارج"، وريبيكا المُراهِقة تجد في رشا الصغيرة مدخلاً إلى خلاصٍ مطلوب، واغتسال ضروري من أوجاع لحظةٍ آنية، وقسوتها وأذيتها.
هذا كلامٌ تنظيري. المُشاهدة أفضل وسيلةٍ لفهم المُقدَّم في فيلمٍ ثالثٍ لمخرجٍ، يجهد في تبيان الآنيّ، في العلاقة الصدامية بين أرضٍ وجغرافيا وتاريخ، واحتلال يفرض قوانين عيشٍ، أوّلها إلغاء ذاكرةِ أصلٍ، وواقعه وحيويته. السخرية جزءٌ من النواة الدرامية لفيلمه الأول. الحبّ ومصائبه وأهواله جوهر فيلمه الثاني، وبراعة الاشتغال، رغم مخاطرها الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، كامنةٌ في أنّ الحبّ قائمٌ بين فلسطيني وإسرائيلية. هذا اختزالٌ مكثّف لفيلمين، يمتلكان الأعمق والأبعد والأوسع من هذا الاختزال. "بيت في القدس" محاولة جديدة لفهم شيءٍ من التداخل/التصادم بين ذاكرة وراهن، وبين تاريخ وجغرافيا، وبين إنكارٍ واعتراف، وبين مواجهة وانتظار، وبين تنصّل ورغبةٍ في معرفة وتواصل.
تمرّد ريبيكا على والدها جزءٌ من رغبةٍ في تحرّر أعمق من سطوة سلطوية عليها. مايكل يُبدي استعداداً كبيراً لفعل أيّ شيءٍ يُريحها. هو غير مُقتنع بما تخبره به عن أنّ في البيت "أناساً" غير مرئيين، وهذا غير قابلٍ للتصديق أصلاً. وحدها ريبيكا ترى رشا، وتسمعها، وتتحدّث إليها. شيئاً فشيئاً، تروي رشا (بلغة إنكليزية سليمة) حكاية عائلتها، والبيت، والزي الفلسطيني، وفلسطين. تقول إنّ مسلّحين يأتون فيقتلون ويطردون أهلاّ، فتختبئ في بئرٍ، بانتظار عودة والدتها. شيئاً فشيئاً، تفهم ريبيكا مصائب هذا البلد، وتتعاطف مع رشا، وتُقرّر البحث عن والدتها. العلاقة تتوطّد بين المراهِقتين، والزيّ الفلسطيني، الذي ترتديه رشا/الدمية، يحضر ليكون خطّاً يُعين ريبيكا في طريقها.
الانتقال من نوعٍ (شيءٌ من التشويق مع شيءٍ من الرعب المخفَّف) إلى آخر (واقع) غير سليمٍ. "الغرائبية" المبسّطة، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا في وصف اللقاءات المتتالية بين الدمية/رشا وريبيكا، تختفي كلّياً في الفصل المتعلّق ببحث ريبيكا عن والدة رشا. هذا، رغم إرباكه سياق الحكاية، يظهر في تفاصيل صغيرة، غير مُقنعة، لا واقعياً ولا غرائبياً: ريبيكا المُراهِقة "تتمكّن" من الوصول إلى "مخيم عايدة"، في بيت لحم، بسهولةٍ، كتمكّنها من بلوغ منزلٍ تُقيم فيه امرأة عجوز (سعاد فارس)، لها "علاقة عائلية" برشا الصغيرة (؟). هذا "التمكّن" غير مُقنع، درامياً وواقعياً، إذْ كيف تتجوّل مُراهِقة إنكليزية في بلدٍ محتلٍّ، بسهولة فائقة؟ وكيف تصل إلى المكان المنشود، وهي تجهل اللغتين العربية والعبرية؟ أمّا الشخصيات القليلة التي تلتقيها ريبيكا في بحثها، فتتحدّث الإنكليزية بطلاقةٍ، وبعضها الأقلّ مُقنع في إتقانه تلك اللغة أكثر من الآخرين. تفصيلٌ عابرٌ، لكنّه منبثقٌ من تبسيطٍ، درامي وجمالي وفني، في رحلة البحث عن عائلة الدمية/رشا.
الأهمّ متمثّل في مغزى الرحلة. المرأة العجوز (يكتشف المُشاهِد هويّتها في بداية اللقاء بينها وبين ريبيكا) تروي الحكاية الفلسطينية، المكتملة بمرافقتها المُراهِقة الإنكليزية إلى ذاك البيت في القدس. الاغتسال، روحياً ونفسياً، ينسحب على المرأة والمُراهِقة، ومنهما إلى الدمية/رشا. في هذا، تبرز تفاصيل جانبية، تُغذّي الحاصل بمفردات واقعية: الشرطة الإسرائيلية المتنبّهة إلى "أسئلة" ريبيكا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن زيّ فلسطيني وعائلة فلسطينية. الغرائبيّة، التي تُحيل ولو قليلاً إلى تشويق/رعب، في البيت المقدسي، ملتزمةٌ شرطها السينمائي الخاص بهذا النوع. الاهتمام بـ"نفسية" ريبيكا، والسعي إلى تحريرها من الإنكار، يترافق واهتماماً آخر بالدمية/رشا، المحتاجة بدورها إلى اغتسالٍ من ثقل ماضٍ، وقسوة راهنٍ.
"بيت في القدس" (المُنتَج بمشاركة جهات عدّة، منها "شركة ميتافورا للإنتاج الفني"، اسطنبول) قابلٌ لنقاشٍ يتجاوز السينما إلى الواقع الفلسطيني، بتاريخه وذاكرته وحكاياته. هذا يُثير، دائماً، تساؤلاتٍ تُعنى بكيفية سرد الحكاية الفلسطينية، وموقع الإسرائيلي فيها. البساطة السينمائية، وهذه ميزةٌ إنْ تُصنع بحِرفية ومهنيّة، تُتيح مساحةً أوسع لتعمّق أكبر في المضمون الدرامي لتلك الحكاية.
السابقُ ملاحظات نقدية، تتناول فيلماً، جمالياته المختلفة أقلّ أهمية من الفيلمين السابقين لمؤيد عليان، من دون إلغاء أهمية الموضوع المطروح فيه، وبعض جماليات اشتغاله.