بوتين والهجرة: حِرفية توثيق جمالي

20 نوفمبر 2023
+ الخط -

 

يجهد وعد الأسدي في الحصول على إقامة دائمة في فنلندا. تمرّ أيامٌ فأشهر وأعوام، وطلبه يُرفض في كلّ مرّة. لجوء، هجرة، دراسة، وظيفة؟ غير نافعةٍ أبداً. الجهات الرسمية الفنلندية تقول إنّ العراق "آمن"، فلا داعي للبقاء هنا. يحاول قول واقعٍ مختلف. لا أحد يقتنع. يروي حكايته أمام كاميرا الفنلندية إلينا تالْفِنْساري، في "كيف تُرضي" (ترجمة عربية ممكنة للعنوان الأصلي، How To Please، بحسب المضمون)، من دون مبالغة أو تصنّع أو استعطاف. سلاسة وبساطة وسهولة في روايته، وديكور غير اعتيادي في أفلامٍ تتناول الهجرة تحديداً، فالمكاتب مفتوحة من دون جدران أو سقوف، وسيارة جيب واقفة بين بعضها، ووعد ينتقل من مكتب إلى آخر، غالباً من دون أنْ يتكلّم، فصوته مسموع، وعندما يتكلّم تكون نبرته هادئة وواقعية وشفّافة. صوت واحد آخر يُسمع: إنّه جواب الموظّفة، الرتيب وغير المتغيّر، غالباً.

أفرادٌ عديدون يروون مشتركاً بينهم: أحلامٌ لهم عن فلاديمير بوتين. في "أحلام عن بوتين" (إنتاج بلجيكي مجري برتغالي، 2023، 30 دقيقة) لناسْتيا كوركيا وفْلاد فيشِز، تُصبح الشخصيات دمى شبيهة بتلك الظاهرة في "ألعاب الفيديو"، تماماً كبوتين نفسه، الذي يُطاردُ رأسُه ـ الدمية الشخصيةَ الرئيسية في لقطات عدّة. لكنْ، لبوتين حضور حيّ، في أشرطةٍ أرشيفية، يظهر فيها سابحاً، وقائد طائرة صغيرة، وغاطساً في الماء كمن يتعمّد، ومشّاء في جبال، إلخ. الصُور مهمّة، والمهم أيضاً كلامٌ يقوله أفرادٌ عن أحلامهم التي يظهر فيها بوتين. ما يُقال يجعل عنوان الفيلم مُخادعاً، فهذه كوابيس، تتمثّل بمطاردة وجه بوتين الشخصية الرئيسية.

بساطة اشتغال تالْفِنْساري، في جديدها (فنلندا، 2023، 28 دقيقة)، ماثلةٌ في كلّ شيء: الديكور، التصوير (يوناس بولْكانن)، التوليف (أوكّو نوتِلايْنن)، السرد (سيناريو تالْفِنْساري نفسها). هذا لا يعني أنّ البساطة مانعةٌ إظهار واقعٍ يعانيه كثيرون/كثيرات في هجرتهم القسرية إلى أورويا. البساطة حاضرةٌ أيضاً في كيفية سرد الحكاية، وابتعاد من يرويها عن الاستسهالٍ في التقاط انفعال وقسوة، وعن بكائيّات غير ناجعةٍ. هذا يُشبه سرد الأحلام ـ الكوابيس، التي يُسبّبها بوتين لأناسٍ (يُذكَر في نهاية الفيلم أنّ النصّ مستندٍ إلى حكايات ـ أحلامٍ حقيقية)، في مقابل اشتغال بصريّ يعتمد على التحريك (فيشِز) المنسجم مع باطن كلّ فردٍ وهواجسه ومخاوفه.

لكنْ، ألن يكون صائباً القول إنّ سيرة وعد الأسدي أشبه بكابوس، يكاد يتساوى وتأثيرات بوتين وكوابيسه في أفرادٍ، رغم أنْ لا علاقة للفيلمين أحدهما بالآخر؟ سطوة كوابيس بوتين لافتة للانتباه عبر اشتغال بصريّ، وديكور "كيف يُرضي" يوحي، في أحد تجلّياته، بمتاهةٍ تُثير رعب "كوابيس" ما أيضاً. هذا إسقاط على فيلمين، مشاركَين في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة في الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". لكنّه مجرّد إسقاط ـ تشبيه، لن يُلغي جماليات كلّ فيلم، وحذاقتهما السياسية في مقاربة خرابٍ مُقيم في الغرب.

المساهمون