كان قراراً صاعقاً سنة 2016، ذاك الذي منحت "الأكاديمية السويدية" بموجبه جائزة نوبل للآداب، للموسيقي وعازف الغيتار الأشهر، بوب ديلان Bob Dylan، ليكون أول موسيقي في تاريخ الجائزة، يُخلّد اسمه إلى جانب أدباء كبار من شعراء وروائيين بارزين. إضافة إلى كونه أول أميركي يحظى بتلك الجائزة منذ سنة 1993، عندما قُدّمت إلى مواطنته السوداء، توني موريسون (Toni Morisson 1931- 2019).
النزعة الأدبية لم تغب يوماً عن إنتاجات ديلان الموسيقية. حتى أنّ الأخير كان قد أصدر ديواناً شعرياً في عام 1971 بعنوان "عنكبوت الرتيلاء الذئبية" Tarantula و"سجلات تاريخية؛ مجلد أول" Chronicles: Volume I. بالإضافة إلى السيرة الذاتية Memoir التي كتبها بنفسه سنة 2004، وتُستعاد هذه الأيام بمناسبة مرور 80 عاماً على ميلاده.
النزعة السياسية بدورها لم تغب، أيضاً، عن نصوص أغاني ديلان، وحتى العناوين؛ "انفخ في الريح" Blowing in the wind، "الأزمنة تلك في تغيّر" The Times They Are A-Changin، و"كحجر متدحرج" Like A Rolling Stone.
في سنة 2016 المحتدمة سياسياً على صعيد الداخل الأميركي، يبدو كما لو أنّها لم تغب أيضاً عن سياق الاحتفاء ببوب ديلان. كفنان أميركي نشاطوي، وجّه آلته الغيتار في وجه النظام الرأسمالي العالمي. وجعل مبكراً من نصوص أغانيه مكبراً للصوت، يعبئ عبر بوقه ويحشد من أجل مسيرة عالمية، تقّوض مؤسسات سلطة كونية تُسخّر البشرية، تتاجر بأرواح الناس، بينما تبيعهم أحلام رفاه مُرهِق، وتمدّهم بأفيون الاستهلاك.
قبل نحو خمسين عاماً وفي سنة 1967، قُبيل اندلاع الانتفاضات الطلابية الشهيرة بنحو العام، والتي عمت جميع المدن الغربية، أصدر ديلان ألبومه جون ويسلي هاردينغ John Wesly Harding، الذي يضم أغنية ديلان الأشهر "على طول المرصاد" All Along The Watchtower. مجلة رولينغ ستون Rolling Stone كانت قد أنزلت الأغنية في المرتبة السابعة والأربعين من بين الأغاني الـ 500 الأعظم في التاريخ.
يعدّ كلام الأغنية مثالاً باهراً على غياب ذات الفنان، الموسيقي والمغني، خلف المقصد السياسي- الاجتماعي. شكل النص، هو بدوره تحفة أدبية، على هيئة موضوعة قصصية، ذات مشهدية مسرحية، صيغت بلغة شعرية بالغة الكثافة والاقتصاد في السرد. أما المضمون، فهو نقدٌ للنظام العالمي الجديد، واستشراف بوادر الثورة عليه، بإسقاط الجدلية الهيغيلية المعروفة بـ "السيّد والعبد" من خلال زوجين متقابلين متصارعين؛ رجال الأعمال وحرّاث الأرض من جهة، وفريق كلّ من اللص والمهرج من جهة أخرى مقابلة.
جدلية الأضداد المتقابلة والمتصارعة تلك، ستخطّ مسار الكلام. هنا، الرموز الاجتماعية يسارية الهوى بادية؛ في اللص إشارة إلى المنحرف الـ"روبن هودي"، المتمرّد على النظام الرأسمالي الليبرالي القائم على الاستغلال، والمولّد للتفاوت الطبقي المُغيِّب للعدالة الاجتماعية، والذي تدلّ عليه الأغنية بصراحة في ذكر "رجال الأعمال يشربون نبيذي، وفي حمرة النبيذ إشارة إلى دمي".
بينما يعاود المهرج، أو الجوكر، The Joker، الظهور كشخصية مألوفة في الأدب والفن الجماهيري Pop Culture منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم، من قصص مصورة وأفلام سينمائية كـ "باتمان"، حيث ترمز إلى المواطن المسحوق المقهور، القانع من خلف ابتسامة زائفة مطلية بالمساحيق التنكّرية، الناقم المحتقن، الخاضع القابع في الهامش، العاطل عن العمل الجالس على حافة الطريق، على عتبة الفوران والثوران في وجه النظام عند أيّة لحظة.
"الأمراء يُبقون عيونهم على المنظر من على طول أبراج المراقبة، يرصدون اقتراب فارسين نحوهم، لعلهما اللص والمهرج، فيما الرياح تقصف"، كما يشير المقطع الثالث من الأغنية. كأنهم هنا كناية عن سلطة الدولة، حرّاس النظام، تراقب عن كثب بوادر احتدام الصدام واشتعال الوضع الراهن. يكمل المقطع؛ "والنساء تجيء وتمضي، والخدم حفاة". إشارة متكررة لحال عبودية تستدعي هبّة التحرير، مستترةً بصورة مستمدّة من الإقطاعية القروسطية، في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.
وإن لن تصل الأغنية بخيال المستمع إلى ساعة الصفر، لحظة بدء الثورة، إلا أنّها تحمل مجاز تحريضٍ مضطرد عليها. إذ إنّ الانفجار الجماهيري عادة ما يقع حين يُستنفد الأمل، ويستفحل الملل بين الناس، فتعدم الحياة بنظرهم أسبابها. لا موجب بعد الآن لإبداء الحماسة، يخاطب المهرج اللص. كثيرون منّا هنا باتوا يعتقدون أنّ الحياة ليست سوى نكتة. في القادم من الكلمات، سيحثّ المهرج اللص على الانخراط في التغيير، قائلاً: "إلا أنّ كلينا قد مرّ من قبل بتلك الحال، ولا ينبغي لها أن تكون مصيرنا. لنمتنع عن لغط الكلام، فالوقت بات يمضي متأخراً".
هناك جدلية ثنائية أخرى تسكن ظاهرة ديلان، تُميّز شخصية الولايات المتحدة ذاتها، ألا وهي اليسار الثقافي التحت - أرضي الناقد والمعارض، في مواجهته اليمين السياسي الذي تمثله المؤسسة الرسمية Establishment بتوافق كلّ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على التزام سياسات اليمين ويمين الوسط، ضماناً لبقاء حلف المال والأعمال الممتد من الترسانة العسكرية إلى ألوان الصناعة الترفيهية الممثّلة بهوليوود.
الأخيرة بأذرعها الموسيقية، كشركات التسجيل Record Labels، ظلّت تنتج صورة الفنّ الجماهيري الأميركي Pop مقترناً بنمطيّات الاستهلاك وحدها، مُسلَّعاً ومُسلِّعاً معه تلك الأسماء التي أبدعته، كما أيضاً والمضامين التي يحملها. سواءً كانت حباً، أم جنساً، أم عنفاً، أم ثراءً، أم إدماناً.
أما ديلان، سواءً بالمغنى أو بالمسلك، فقد ظلّ يُمثّل رسمياً ذلك الصوت غير الرسمي، الخارج عن الداخل من الداخل نفسه، المضاد والمكتوم، العالي والمُنكفئ، الذي ظل يقاوم ويثابر على فضح عيوب النظام السائد بلغة شعرية مجازية عذبة، وصنعة موسيقية متقنة، مُعيداً ثقافة الجماهير إلى الجماهير، بعدما صادرها النظام. مثله مثل رواد السينما المستقلة (أي تلك التي لا تنتمي إلى رابطة منتجي هوليوود وتنطق باسم المؤسسة الرسمية)، وكتّاب وشعراء وتشكيليين كبار، مالوا جهة اليسار، وظلوا يرون ضرورة تغيير الصيرورة الرأسمالية، لاستحالة ديمومتها من وجهة نظرهم، ولشدّة الظلم الذي تحدثه.