استمع إلى الملخص
- في بيروت، تعبر عن فخرها بالمنحة وتؤكد على أهمية التعليم للفلسطينيين، مشيرة إلى التشابه بين معاناة الشعبين اللبناني والفلسطيني.
- تعبر عن حزنها من تعامل الإعلام الغربي مع الفلسطينيين كأرقام، وتؤكد على دور الصحافيين الفلسطينيين في فضح وحشية الاحتلال، مع نيتها العودة إلى غزة.
على حسابها الشخصي في "إنستغرام"، منشوران متجاوران: الأول صورة شخصية لها بقميص أزرق أنيق، وشعر مسرّح بعناية وابتسامة تملأ الصورة. الثاني بعدها بثمانية أيام، فيديو تظهر فيه بصوت مرتجف وعينين خائفتين، وصوت قصف مرعب. في هذا الفيديو تحديداً تعرّف العالم إلى الصحافية الفلسطينية الشابة بلستيا العقاد (22 عاماً) التي غطت عبر حسابها في منصة إنستغرام الأسابيع الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، قبل أن تخرج من القطاع مع عائلتها. كل ما تلا هذا الفيديو، المؤرّخ في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صور ومشاهد للموت والقصف والجثث، وأصوات رعب متناقلة. وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني نشرت العقاد فيديو توضح فيه أنها غادرت مع عائلتها قطاع غزة عبر معبر رفح، متوجهة إلى أستراليا. وها هي اليوم تنتقل إلى لبنان للحصول على شهادة الماجستير في الدراسات الإعلامية في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد حصولها على منحة الصحافية الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة التذكارية، تقدمها الجامعة بالشراكة مع مؤسسة يافا.
وصلت بلستيا العقاد إلى بيروت، قادمة من أستراليا، حيث لجأت وعائلتها بعد مغادرتها قطاع غزة، إذ "كانت الخيار الوحيد المُتاح أمامنا" على حدّ قولها، لتبدأ "تجربة جديدة يمكن من خلالها دائماً أن تستكشف أجزاءً جديدة من نفسك، لم تكن تعلم أنها موجودة... وشرفٌ كبيرٌ لي أن أحصل على منحة شيرين أبو عاقلة، الموجودة دوماً بيننا فعملها الصحافي يلهم الأجيال القادمة... عندما تشتدّ الأوقات، أتذكر كلمات شيرين: يتطلب الأمر التحمّل، حافظي على معنوياتك مرتفعة. قد لا يبدو أن نجاحاتنا الفردية مهمّة، ولكن إذا تراكمت معاً، فإنها تدفع حركتنا إلى الأمام – خطوة بخطوة"، وفق ما كتبت في منشور أعلنت فيه وصولها إلى بيروت.
تشير الصحافية الشابة بوضوح في المنشور نفسه إلى مفارقة دراستها الجامعية في بيروت، في وقت "دمّر الاحتلال كل جامعة في غزة... لكن التعليم أقوى أداة يمكن للفلسطيني أن يحصل عليها. وما تفعله إسرائيل لن يمنع الشابات مثلي من التعلّم سعياً لتحقيق العدالة". وعن اختيار بيروت، في وقت كان يمكن لدراستها أن تكون في مكان أكثر أمناً، تقول بلستيا العقاد لـ"العربي الجديد": "لبنان ذكرني كثيراً بغزة، فالشعب هنا وهناك عانى الكثير مع اختلاف حجم المعاناة، ووجودي هنا يجعلني أشعر بالألفة، وأتمنى ألا تتوسّع رقعة الحرب، ولكن إذا توسّعت فلن يكون ذلك شيئاً لم أعشه من قبل، وسأكون جاهزة لنقل معاناة الناس هنا".
لم تكن بلستيا العقاد التي تحمل اسماً يعود إلى أولى القبائل التي سكنت فلسطين، تتوقع يوماً أن تغطي مجازر وجرائم إبادة وهي لا تزال تخطو أولى خطواتها في عالم الصحافة، بعد تخرجها بعامَين، رغم أنها عاشت حروباً متتالية منذ طفولتها. تقول لـ"العربي الجديد": "ما يحزنني كيف أنّ الإعلام عمل طوال عقود على نزع الإنسانية عن الفلسطيني، والتقليل من قيمته البشرية، فخلال تغطيته لمختلف الحروب في القطاع استخدم مصطلحات معينة جعلت الناس تنظر إلينا كأرقام، وما فعلته من خلال تغطيتي دفع الناس إلى التفاعل مع الشعب الفلسطيني ويرتبطون بهم، ويدركون أكثر ما نعاني منه". وتضيف: "كنت أتمنى لو أن العالم عرفني وأنا أصوّر قصصاً جميلة عن غزة، قبل أن يعرفني وأنا أوثق جرائم الإسرائيلي والمجازر التي يرتكبها بحق شعبي، ولكنني فخورة بأني استطعت أن أنقل ولو شيئاً بسيطاً من معاناتنا في غزة للعالم". وتشير إلى أنه "بعد تغطيتي لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، أجد من الصعب على الأقل في الفترة الحالية أن أكون مراسلة صحافية تغطي أي خبر، إذ للأسف ما رأيته وعشته وغطّيته في غزة جعلني أقف أمام أخبار العالم، أسأل نفسي ما إن كان ما أراه خبراً حقاً مقارنة بما عشته في بلدي". وتضيف: "دائماً عندما أفكّر في تغطيتي الصحافية عن المجازر والجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، صدقاً لا أجد كلاماً للتعبير عما عشته وشعرت به ورأيته، الكلمات والصورة ركيكة مقابل ما يحدث في القطاع".
ورغم نجاتهم من الإبادة ومغادرتها للقطاع، إلا أن ما رأته في الأسابيع الأولى يرافقها حتى اليوم. تتراكم المشاهد المأساوية في مخيلتها "ربما أصعبها مشهد النزوح... أن أرى رجلاً عجوزاً يحمل كيساً في داخله ما تيسّر من منزله ماشياً به إلى المجهول" تقول.
كلام الصحافية الغزية الشابة يؤكّد ما راكمته الوقائع والتحليلات والتقارير الحقوقية والإعلامية عن تعامل الإعلام الغربي منذ اللحظة الأولى مع هذا العدوان، بصورة منحازة إلى رواية الإسرائيلي. وهو الانحياز المتكرر في الحروب المتلاحقة التي عاشها القطاع في العقدَين الأخيرَين. ولعلّ هذا الواقع الإعلامي دفع بلستيا العقاد، ومعها عشرات الصحافيين والمصورين الغزيين الشباب إلى تحويل صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مساحات عامة لفضح وحشية الإسرائيلي، وكذب روايته. وقد برزت في هذه الحرب أسماء كثيرة لصحافيين شباب، حوّلهم العدوان إلى مراسلين ميدانيين، وصنّاع محتوى، يزوّدون المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية بمشاهد مباشرة لوحشية الإبادة، ولشهادات الغزيين في نزوحهم وفي هروبهم اليومي من جحيم القصف الإسرائيلي. وبرزت أسماء كثيرة، بينها بيسان عودة، ومعتز عزايزة، وهند خضري، وغيرهم من المدونين والصحافيين، الذين شكل المحتوى الذي يقدمونه تهديداً للرواية الإسرائيلية في الغرب. فعلى سبيل المثال وقّع 150 شخصاً من مشاهير هوليوود على رسالة تطالب جوائز إيمي بإلغاء ترشيح بيسان عودة لجائزة إيمي للأخبار والأفلام الوثائقية، بسبب ما قيل إنه علاقتها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد رفض طلبهم.
"منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة كنت أعلم أن ما سيحصل في الأيام المقبلة لن يكون كأي عدوان إسرائيلي سابق على القطاع، وما كان أمامي كصحافية إلّا خيار أن أنقل حقيقة ما يجري في غزة للعالم رغم خبرتي المتواضعة في الصحافة، وإلا كنا سننتظر أن يدخل صحافيون أجانب غزة ويرووا الرواية الفلسطينية على طريقتهم الغربية"، وهو ما لم يحصل بطبيعة الحال، بما أن الاحتلال منع دخول الصحافيين الأجانب إلى القطاع إلا بمرافقته الشخصية وبجولات على متن آلياته العسكرية. ورغم إصدار أكثر من بيان موقّع من عشرات المؤسسات الأوروبية والأميركية والعربية، تطالب الاحتلال بالسماح بدخول صحافييه إلى غزة، لا تزال المعابر مقفلة، بما فيها معبر رفح، إذ تمنع السلطات المصرية أيضاً منذ بداية الحرب الصحافيين من دخول غزة عبر أراضيها.
هذا الواقع فرض على كل الصحافيين في غزة، وحتى المدوّنين والناشطين، أن يزوّدوا العالم بمحتوى مرئي ينقل وحشية المجازر الإسرائيلية، في ظل تعامي العالم لأشهر عن هذه الإبادة، "أن تكون صحافياً في غزة يعني أن تنقل الخبر وقد تكون الخبر في أي لحظة".
كلام بلستيا العقاد لـ"العربي الجديد" يأتي في وقت أعلن فيه مكتب الإعلام الحكومي في غزة ارتفاع عدد الصحافيين الشهداء إلى 172، قتلهم الاحتلال باستهدافات مباشرة، سواء في أثناء تغطيتهم الإعلامية، أو في أثناء مكوثهم مع عائلاتهم في منازلهم أو خيم النزوح. وتؤكد بلستيا العقاد أنّها ستعود طبعاً إلى غزة، إذ "يمكن للإنسان مغادرة غزة، ولكن غزة لا تغادره، يعزّ عليّ أني خارج غزة الآن وأتمنى العودة إليها وإكمال عملي الصحافي، الذي سيكون دوماً ناقصاً إذا لم أكمل تغطية إعادة بناء كل ما دُمّر".