بديعة صادق... أغنيات ضد النسيان

27 اغسطس 2023
100 عام على رحيلها (فيسبوك)
+ الخط -

في ليلة من ليالي شتاء عام 2009، جلست المطربة المصرية بديعة صادق (1923 - 2010) في ردهة بيتها في القاهرة، تجتر ذكريات مجدها، وتحكي لابنتها بعضاً من تفاصيل رحلتها الفنية الطويلة، التي بدأت في طفولتها المبكرة، إذ كان والدها مديراً فنياً لفرقة فوزي منيب المسرحية، وكثيراً ما كان يصطحبها لمشاهدة العروض التمثيلية، والأوبرتات الغنائية، والرقصات الاستعراضية، وقد استهواها كل هذا؛ فالتحقت وهي في الحادية عشرة بفرقة بديعة مصابني. وتروي صادق لابنتها أنها اندمجت في أجواء "كازينو بديعة"، فقدمت وهي في هذه السن الاستعراضات الخفيفة، والمونولوجات الفكاهية، لكن المطربة الكبيرة وهي تروي هذه الذكريات كانت قد بلغت 86 عاماً، وكانت تظن أن الجماهير قد نسيتها، وأن الأجيال الجديدة لا تعرف عنها شيئاً. اعتزلت الغناء منذ فترة طويلة، ولا تبث الإذاعة ولا التليفزيون ولا الفضائيات أياً من أعمالها، بالرغم من رصيدها الكبير من التسجيلات لدى الإذاعة المصرية.
حديث الأم وذكرياتها، دفع الابنة إلى البحث عن اسم والدتها على شبكة الإنترنت، لتفاجأ بآلاف النتائج، من التدوينات والتعليقات، وعشرات التسجيلات، المنشورة في بعض المواقع الإلكترونية المتخصصة في الغناء والموسيقى، فنقلت ما قرأت وسمعت إلى تلك التي ظنت أن النسيان قد طواها، فلم تكد تصدق أن شباباً في عشرينات وثلاثينات أعمارهم، يحتفلون بأغنياتها، ويبحثون بشغف عن تسجيلاتها. كانت فرحتها أشبه بعودة إلى أيام الشهرة والمجد، ذكرتها الإنترنت بأغنيات نسيتها، وصور إذاعية غابت عن ذاكرتها. لكن هذا الاحتفاء جاء كأنه تكريم أخير، فبعد عام واحد، رحلت بديعة صادق.


بالرغم من أن "كازينو بديعة مصابني" كان يقدم ألواناً مختلفة من الفنون، كالتمثيل والغناء والاستعراضات الراقصة والمونولوجات الخفيفة، والروايات المسرحية، إلا أن الممارسة العملية كانت تؤكد أن الغناء هو ميدان بديعة صادق، لكنها لم تترك المساحات الأخرى، وعندما انتهت مرحلة مصابني، كون محمد صادق لابنته فرقة موسيقية خاصة، وأعانها ببعض الممثلين لتقديم مسرحيات قصيرة من فصل واحد. كانت معظم المسرحيات والمونولوجات التي تقدمها فرقة بديعة صادق من تأليف عازف الكمان عبد الغني النجدي، الذي تزوجت منه بديعة، وأنجبت منه ابنها الأول خالد قبل أن ينفصلا، لتتزوج من الموسيقي أحمد علي، وتبدأ معه رحلة غنائية مغايرة.
في حياة بديعة صادق عدة محطات تكاد تشكل العناوين العريضة لمسيرتها الفنية. في مقدمة تلك المحطات، يأتي اختيارها من قبل رئيس أوركسترا الإذاعة الموسيقار محمد حسن الشجاعي، لتمثيل دور نزهة، في مسرحية "العشرة الطيبة" التي صاغ ألحانها سيد درويش، وهو الدور النسائي الرئيسي في بطولة يقابلها رجالياً صوت عبد الغني السيد. تروي بديعة في حوار مسجل أن عبد الغني السيد - ورغم جمال صوته - إلا أنه كان كثيراً ما يخرج عن "الطبقة" الصوتية المقررة، ما كان يستفز الشجاعي، المعروف بانضباطه وجديته الشديدة وعصبيته. استمر هذا الحال مدة شهرين، إلى أن خرج الشجاعي عن طوره، وضرب عبد الغني السيد ضرباً مبرحاً، وطرده من الدور ليحل محله المطرب كارم محمود، الذي جاء أداؤه في غاية الإتقان.
لم تكن بديعة صادق تحب السينما، ولم تبذل أي جهد لتكون وجهاً سينمائياً معروفاً، وكانت تكره الجهد الكبير الذي يُبذل أثناء تصوير الأفلام. ربما كان الاستثناء الوحيد من هذا الموقف عندما أغراها محمد عبد الوهاب بالظهور في فيلمه الشهير "يوم سعيد" عام 1940، لتغني طقطوقة "محلاها عيشة الفلاح". لكن عبد الوهاب أظهر صورة بديعة، وركب عليها صوت أسمهان، التي رفضت بشدة أن يستعين عبد الوهاب بصوت مطربة أخرى.
تعتبر بديعة صادق أن أغنية "الجواب" تمثل معلماً مهماً في مسيرتها الفنية. ترى أنها بهذا العمل الذي صاغه مرسي جميل عزيز ولحنّه زوجها الفنان أحمد علي، كانت أول من غنى كلمات تأخذ شكل خطاب مرسل: "عزيزي وحبيبي.. من بعد التحية.. من قلبي وعنيا.. أهديك السلام.. واكتب لك جوابي.. بدموعي وعذابي.. مش بس بكلام".
تؤكد بديعة أن أغنيتها لفتت انتباه عبد الحليم حافظ، فطلب من مرسي جميل عزيز وضع كلمات في صورة رسالة، ليغنيها بألحان كمال الطويل، فوضع عزيز كلمات تقول: "حبيب الغالي.. من بعد الأشواق.. بهديك كل سلامي.. وحنيني وغرامي.... نور عيني.. روح قلبي.. حبيبي حياتي". لم يكتف "العندليب" بالتشابه الشديد في الفكرة والصياغة، وإنما أغرته شهرته وجماهيريته بأن يعطي أغنيته نفس عنوان أغنية بديعة صادق "الجواب".
لم تكن علاقة صادق وثيقة بالقوالب الغنائية الكلاسيكية، وفي مقدمتها الدور والموشح، لكن الموسيقار إبراهيم شفيق درّبها على أداء ثلاثة أو أربعة أدوار، وأقنعها بتسجيلها للإذاعة، ومن أجودها أداء دور العفو يا سيد الملاح، من ألحان الشيخ عبد الرحيم المسلوب، ودور في مجلس الأنس الهني لمحمد عثمان. ومن نوادرها التي سجلها التلفزيون المصري في بداياته موشح "أحن شوقاً"، ويبدو أن موقف بديعة من التلفزيون لا يختلف كثيراً عن موقفها من السينما، ولا مبالغة إذا قلنا إن تراثها كله كان للإذاعة.


ومن أهم ما يتذكره جمهور الراديو، الصورة الغنائية المعنونة بـ"الدندورما"، من تأليف محمد متولي وألحان عزت الجاهلي، إذ اشتركت فيها بديعة صادق بالأداء الغنائي لدور أم زكية، وقد زادت شهرة هذه الصورة بعد أن صورها التلفزيون، واختار لتمثيل دور أم زكية الممثلة إحسان شريف، مع صوت بديعة. ومن صورها الإذاعية أيضاً أوبريت مسعود الحطاب، وهو أيضاً من ألحان عزت الجاهلي. وفي كلا الصورتين لم تنل بديعة دور بطولة، فتصدر صوت سعاد مكاوي.
ولبديعة صادق عدد من الأغنيات الإذاعية التي حققت نجاحاً شعبياً، منذ مطلع الأربعينيات وحتى السنوات الأولى من عقد الستينيات، ومن هذه الأغنيات "يا محلا جمالك يا عروسة"، وهي أحد الأعمال الأيقونية لمحافل الزفاف، و"عروسة الحب حبوها"، وكذلك أداؤها للحن سيد درويش "يا عشاق النبي صلوا على جماله"، و"ريحانة فتانة"، وأيضاً أعمالها الدينية: "أنا بصلي"، و"ألف مرحب يا رمضان"، و"إياك نعبد". ومن أجمل هذه الأغنيات "شوفوا آيات الجمال اللي بدعها الإله".
في عام 1962، غادر الموسيقي أحمد علي مصر ليستقر في الكويت، وبعد عام أو عامين لحقت به زوجته بديعة صادق، لتبدأ مرحلة جديدة استمرت حتى عام 1990. في الكويت، استمرت بديعة في الغناء، وشاركت مع زوجها في انطلاقة الإذاعة الكويتية. قدمت الأغنيات لمسلسل إذاعي بعنوان "رابعة العدوية"، ومنها: "ورب عين رآها الله"، و"يا حبيبي"، و"وحقك"، و"أعيذك أن تغل يدي". كما قدمت عدة أغان باللهجة الكويتية، لكنها ظلت دائماً تعتز بأدائها لقالب "الصوت" الكويتي "سلوا الكاعب الحسناء"، من كلمات الشاعر أحمد مشاري العدواني، وألحان أحمد الزنجباري، الذي كان يقول: "أخيراً وجدت من يغني لي هذا الصوت".
تضافرت عدة عوامل لتدفع باسم بديعة صادق إلى صحراء النسيان مبكراً، قبل أن تحيا فنياً بين نخب المستمعين عبر المواقع الإلكترونية. ولعل أكبر هذه العوامل يتمثل في هجر السينما، ولم يكن صوتها - على ما فيه من جمال - من القوة والتأثير بحيث تعتمد عليه وحده. كان ذلك ممكناً في عصر الإذاعة، ثم تراجع مع انتشار الأفلام الغنائية الجذابة. ثم جاء التلفزيون، ليعيد بث الأفلام القديمة، فلم يكن لبديعة فيها نصيب. ويمكن أن نضيف إلى أسباب نسيانها أنها من الأصل لم تبذل أي جهد تسويقي لنفسها، كانت تتجنب الصحافة والإعلام، وتهتم برعاية أولادها، ولم تطمح يوماً إلى مكانة أو شهرة واسعة. صحيح أنها احترفت الغناء مبكراً، لكنها ظلت تمارسه كهاوية لا كمحترفة. كانت تعرف حدود صوتها جيداً، فلم تحمله يوماً فوق طاقته.

ولدت بديعة صادق عام 1923، في مدينة ملوي بالمنيا، واشتغلت بالفن مبكراً لكونها من أسرة فنية. غادرت مصر إلى الكويت أوائل الستينيات مع زوجها أحمد علي، وبررت في حوار قبل رحيلها هذه الهجرة بتغير المناخ الفني، بعد أن تغير المناخ السياسي. ولا ريب أن مرور 100 عام على ميلادها يمثل فرصة للتأمل في أسباب الصعود والتراجع وإعادة الاكتشاف.

المساهمون