لا إنكار أن الوهم المرتبط بوسائل التواصل الاجتماعي كـ"فضاء عام" قد انهار كلياً. بدأ الأمر مع ثقافة الإلغاء، وتكميم أفواه المختلفين (مهما كانت آراؤهم راديكالية)، بحجة "معايير الاستخدام"، التي يتبجّح بها "فيسبوك"، و"تويتر" قبل استيلاء إيلون ماسك عليه وتحويله إلى "إكس"؛ إذ أصبح الأمر واضحاً بعد عملية طوفان الأقصى، و"الحرب" على كلمات محدودة، كغزّة وفلسطين و"حماس" وغيرها، بوصفها تشير إلى محتوى لا يتلاءم مع هذه المنصات التي سبق لها أن حذفت العديد من الصفحات، ليس فقط بسبب حجة المحتوى العنيف، بل كونه لا يتلاءم مع "معايير المجتمع"، كما حصل عام 2021.
هذه المواجهة مع وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى؛ تلك الشركات التي تحرص على معايير المجتمع وليس حرية التعبير، بلغت أوجها إلى حد الاضطرار إلى اللعب بأشكال الكلمات، وتغيير تكوينها اللغوي، لتفادي الخوارزمية، منظومة الذكاء الاصطناعي التي تتعاون مع البشر أو "مراقبي المحتوى"، لتحديد ما هو ملائم وما هو ليس ملائماً. تلك الخوارزمية التي وصلت حد حجب آراء وحقائق فلسطينية، لتعميم السردية الإسرائيليّة.
على الرغم من كل هذه الهجمات على المحتوى الفلسطيني، فوسائل التواصل الاجتماعي ما زالت أداة لا يمكن الاستغناء عنها. وظهرت تقنية اللعب بالكلمات لتفادي "الرقابة" كوسيلة للحفاظ على الانتشار. وهنا المفارقة، أن هذه الخوارزمية لا تفقه السياق، تهاجم الكلمات العربيّة مهما كان مصدرها، شتّاماً أو مداحاً كان الشخص في منشوره. كلمات كفلسطين و"حماس" ستتعرض للحجب أو الـShadow Banning، بل إن صفحة "العربي الجديد" نفسها على فيسبوك، أسوةً بصحف ومواقع أخرى، تكتب الكلمات هذه بالشكل الآتي: "شـ.هـ،د!ء"، "الاحـ،،تـ،،لال"، وذلك حرصاً على الانتشار.
هذه الكتابة ضد الخوارزميّة، تفتح تساؤلات حول حرية التعبير، التي وصلت إلى حد أن تهدد هذه الشركات كلمات بعينها، وتمنعها من التداول، فالحديث هنا ليس عن جماليات تقطيع الأحرف، بل عن معركة حول الكلام، ما يمثّل إمعاناً في تهديم فرضية "الفضاء الرقمي العام"، ويؤكد أننا أمام شركات، تحوي "مجتمعاً" (Community) وليس مواطنين. إنه مجتمع ذو قواعد تحكمه، ولا تشابه على القوانين التي يضمنها دستور الولايات المتحدة مثلاً، حيث مقر "فيسبوك". بعبارة أخرى، نحن أمام شركة تريد للمستفيدين من خدماتها أن يعرفوا حكاية واحدة فقط، وسردية واحدة فقط، إلى حد محاربة حتى من يشتم الطرف الآخر بناء على كلمة.
لكن، هل الحل هو اللعب بالكلمات، وتغيير شكلها؟ هذه دورة لا نهاية لها، كحالة علم فلسطين الذي استبدل بشعار حز بطيخ لتفادي الشبهة. تغيير الرموز في هذه المساحة، لا يضمن حقوق أفرادها، فكما تتطور الرموز، تتطور الخوارزمية أيضاً. المشكلة، إذن، ليست بالكلمات، ولا بالسرديات، المشكلة في هذه المؤسسات التي تغير "قواعد" استخدامها، من دون استشارتنا، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار سوى حكاية واحدة. رغم ذلك، هناك شعرية ما في أن تتحول كلمات كمقاومة وفلسطين إلى محط "حرب" وسائل التواصل الاجتماعي، فقط لأنها كلمات، ما يزيد من قدرة هذه الكلمات على ترك أثر، ويعزز سطوتها عند استخدامها، بل إن تجزيئها وتفكيكها يعكسان بصورة مجازية طبيعة الصراع والسعي إلى تفتيت السردية إلى حد جعلها حروفاً قد تستعصي على القراءة.
يمكن أن نقرأ كل ما يحصل بوصفه جزءاً من ثقافة الإلغاء (Cancel Culture) وامتدادها في وسائل الإعلام التقليديّة. وكأن "الغرب"، أو بصورة أدقّ، الشركات التي تخاف على المشاهدين والمستهلكين، مستعدة للتلاعب بالحقيقة وتكميم الأفواه لإرضاء المشاهدين، ضمن مقاربة تجزئة السوق إلى كتل بشرية، لكل منها وسيلته ومحتواه الخاص.
المفارقة أن هذه المنصات لا تبالي بفئة كبيرة من المستهلكين، وهم الناطقون بالعربيّة، هم "لا جمهور"، مستهلكون، آراؤهم يمكن الاستغناء عنها، مقابل الفئة الكبرى من المستهلكين المحليين.
يتضح ذلك عند النظر في عائدات الإعلانات وعدد المشاهدات والنقرات. مليون مشاهدة في مصر أو لبنان يختلف ثمنها أو مكافئها المادي عن مليون في فرنسا أو المانيا أو أوروبا. وهنا بالضبط المكان الأدق لفهم ما يحصل، الربح المتوقع من مستهلكي الغرب، يفوق بأضعاف ذاك المتوقع من مستهلكي "الجنوب".