انفصالٌ عن مُشاهدة في مدينة خانقة

26 يونيو 2024
مدخل صالة بيروتية: استحالة مشاهدة هادئة (حسام شبارو/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه الكاتب المتخصص في النقد السينمائي تحدي الانفصال شبه التام عن عالم المشاهدة، مما يؤثر سلبًا على قدرته على العثور على مواضيع جديدة للكتابة ويضطره للاعتماد على المصادر الأجنبية للبقاء مطلعًا.
- تجربة المشاهدة في صالات السينما ببيروت غير مرضية بالنسبة للكاتب بسبب سلوكيات الحضور المزعجة، مما يدفعه للتفكير في معنى الانفصال عن المشاهدة السوية والتوجه نحو المنصات الإلكترونية رغم عيوبها.
- يشير النص إلى التحديات اللوجستية والسياسية التي تعيق متابعة الأفلام الجديدة والمشاركة في المهرجانات السينمائية الدولية، مؤكدًا على أهمية التغلب على هذه العقبات للحفاظ على مكانة ودور الكاتب كناقد سينمائي.

 

أكثر سؤالٍ محرج، في الآونة الأخيرة، يتعلّق بالمُشاهدة: "ماذا تُشاهد من أفلامٍ؟". الإحراج نابعٌ من انفصالٍ شبه تامٍ بيني وبين المُشاهدة، حالياً. هذا غير مقبول مهنيّاً وثقافياً وفنياً وانفعالياً وذاتياً أيضاً. ربما يسخر زملاء وزميلات، وأصدقاء وصديقات، من تعبير كهذا. اختراع مواضيع للكتابة عنها غير صالحٍ دائماً، رغم أنّ المشهد السينمائي في العالم ثري بمسائل تُناقَش وتُحلَّل، ويُحاوَر حولها ومعها. لكنّ المهنة متطلّبة، والمُشاهدة بغرض الكتابة النقدية جزءٌ أساسي منها.

اختراع مواضيع دافعٌ إلى الاستعانة بالترجمة أيضاً. قراءة المنشور في مطبوعات سينمائية (وغير سينمائية أحياناً) فرنسية، وأخرى تعتمد اللغتين الفرنسية والإنكليزية، أساسية في المهنة، والترجمة عن بعضه مهنة وحاجة ثقافية - فنية. هذا، بدوره، غير كافٍ إنْ يُعتَمَد دائماً. هذا عاجزٌ عن ملء فراغٍ، والفراغ منبثقٌ من عدم المُشاهدة. العيش اليومي في بيروت مُثير لاختناق وملل ولوعة، وهذه تحول دون مُشاهدة هادئة، يُفترَض بها أنْ تُمتِّع عيناً وقلباً وروحاً، رغم أهوال ومصائب ووقائع يعاينها فيلمٌ يُشاهَد في صالة سينمائية أو منصّة، وهذا بدوره غير كافٍ لمهنة، ولمتعة مُشاهدة.

المُشاهدة في صالة سينمائية في بيروت غير سليمة غالباً. هناك من يظنّ نفسه أنّه ـ أنّها مُشاهدٌ، لكنّ سلوكاً لهما يشي باعتداء على الصالة والفيلم معاً، وعلى راغبٍ في مُشاهدة كهذه. لذا، يُستَحْسن عدم التورّط بصدامات، سيكون الفشل خاتمة، لأنّهما غير آبِهَين بمعنى أنْ يُشاهَد فيلمٌ في صالة. المُشاهدة المعتَمِدة على منصّة وموقع إلكتروني تمنح خياراتٍ، فيها مختلفٌ وجميل ومُثير لمتعٍ وتفكير. لكنّ صغر الشاشة مزعجٌ أحياناً، مع أنّ خياراً كهذا يبقى أفضل بكثير من تورّط في صالة لبنانية، غير مانحة شيئاً من "طقوس" مُشاهدة سليمة.

معظم المكتوب هنا مُكرّر في أكثر من مناسبة. لكنّ الاعتراف بعدم المُشاهدة دافعٌ، أو يُفترض به أنْ يكون دافعاً إلى مساءلة الذات، علناً، عن سبب ذلك، وعن معنى الانفصال، الذي سيكون مؤقّتاً بالتأكيد، عن مُشاهدة سوية. الركون إلى الشاشة الصغيرة يمنح تمضية وقتٍ لا أكثر، لكنّ المهنة غير مرتبطة بأفلامٍ تبثّها شبكات تلفزيونية، لأنّها مُنتجة في أعوامٍ سابقة، ما يعني عدم أهليّتها لمهنة، تريد معاينة آنيّة قدر المستطاع. متابعة ما يُنشر في فيسبوك، من صُوَر فوتوغرافية سينمائية وتعليقات عنها وعن مسائل مختلفة، ومن مقاطع من أفلامٍ قديمة، والمُنتج حديثاً بينها قليلٌ؛ متابعة كهذه، رغم سلاسة وروية وشيءٍ من جمال وفرح، تُذكِّر بعمرٍ ينقضي، وتفتح منافذ إلى ماضٍ، فيه جمالٌ، مندثرٌ حالياً (رغم أنّ في الحالي جمالاً آخر، وإنْ أقلّ من السابق)، وهذا صعبٌ وقاسٍ. متابعة كهذه تبلغ أحياناً لحظة مللٍ، فيُصبح الانصراف عنها هروباً من ذكريات، مع وهم راحة مرتجاة.

 

 

جزءٌ آخر من المهنة متمثّل بقراءة متابعات نقدية لزملاء وزميلات، تُنتجها مشاهداتٌ في مدنٍ، معظمها غربيّ، أو في مهرجانات ومنصّات ومواقع مختلفة. متابعات تتيح لقارئها قبل نشرها ما يُشبه المُشاهدة، لتحريضها على ضرورة بحثٍ عن أفلامٍ يُكتَب عنها. لكنّ البحث يصطدم بالتالي: إمّا انتظار عرضٍ في صالة تجارية، وإمّا اعتماد منصّات ومواقع، وإمّا سفرٌ إلى مهرجاناتٍ سابقة على عروضٍ في أمكنة ووسائل أخرى. القراءة هذه تعويض ولو قليل، بانتظار فرصة مشاهدة ربما تحصل، وغالباً لن تحصل.

سيُقال: ماذا عن المهرجانات السينمائية؟ موقفٌ شخصي من مهرجان ما غير مهني البتّة، رغم أسباب عملية مكتوبة سابقاً. حضور الأبرز منها دولياً يحتاج إلى أدوات يُمكن الحصول عليها، لكنّ مهرجاناتٍ بينها مُرهِقة، والسياسة طاغية، والتعصّب الغربيّ، غداة "7 أكتوبر" (2023) تحديداً، أسوأ من ذاك العربي بكثيرٍ.

في مهرجانات محدّدة، هناك متعة حضورٍ يشعر بها الناقدُ في أشياء عدّة: تنظيم مُريح، تسهيلات تُتيح مشاهدة هادئة، أفلامٌ تُنتجها دولٌ غير صناعية سينمائياً، لقاءات مع أصدقاء وصديقاتٍ قلائل للغاية، ومع زملاء وزميلات مهنة. إضافة إلى جمال طبيعة وعمارة وأزقّة وأمكنة سهر، وهذا مطلوبٌ في سفرٍ، بين حين وآخر.

المُشاهدة في مهرجانات كهذه، القليلة أصلاً، وسبب قلّتها شخصي أولاً، غير كافية لمهنة متطلّبة، وتطلّبها مُتعبٌ لكنّه مُحبّب، رغم سنين طويلة من ممارستها.

لا علاقة للسابق بتشاؤم أو اكتئاب. الملل والإحساس بفراغٍ وقسوة وارتباك "طبيعيّان" في مدينة بائسة ومخنوقة وخانقة. السابق واقعٌ، والبوح بشعور إزاء هذا الواقع عاديّ. فالبوح، في جانبٍ منه، يُساعد على قبول واقعٍ، لعلّ قبوله يغلب ما فيه من هذين الملل والإحساس. البوح لحظة انكشافٍ في مدينة مُحبِطة لشدّة انكسارها وخيبات محبّيها ومواجع مُقيمين ومُقيمات فيها. صالاتٌ كثيرة فيها مغلقة وملغاة، والعاملة بينها غير مُريحة في المشاهدة.

لكنّ هذا كلّه لن يُبرِّر انفصالاً غير مقبول. فالمهنة أولاً رغم كلّ شيءٍ، لأنّ للمهنة مكانة أولى وأساسية في ذاتٍ وروح وتفكير وانفعال.

المساهمون