اليمين الفرنسي وبلاغة "حرب الحضارات" المهترئة

02 نوفمبر 2023
من تظاهرة تضامنية في باريس (فرانس برس)
+ الخط -

ما زال موقف فرنسا ثابتاً من العدوان على غزة، إذ تقف إلى جانب إسرائيل، على الرغم من كتابة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على منصة إكس (تويتر سابقاً) منشوراً، يطالب فيه بهدنة، ناشراً صور المساعدات التي وصلت من فرنسا إلى مصر. لكن اليمين واليمين المتطرف في فرنسا يتبنيان بلاغة أكثر وضوحاً في وصف العدوان على غزة، إلى حد القول إن ما يحصل هو "حرب الحضارات".

"فيلسوف الشاشات" ميشيل أونفري، في لقاء مع قناة "أوروبا 1"، والملاحق دوماً باتهامات بأنه يميني، استعاد حادثة لقاء مفتي القدس أمين الحسيني مع أدولف هتلر عام 1941. لكن الأكثر إثارة للعجب أن أونفري يؤكد كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأننا أمام "حرب حضارات" ليس بين الحداثة وما قبلها مثلاً، بل بين "اليهود والمسلمين". يقسم الرجل العالم، إذن، إلى أشرار وأخيار، في نموذج لا يرتقي إلا إلى الضحالة، واستخدام كلمات كـ"البربرية" وغيرها من الأوصاف التي تؤكد تقسيم العالم، بين مسلمين وغيرهم، بل يقول حتى هي "حرب دينيّة".

المفارقة أنه على القناة نفسها، ظهر أيضاً اليميني المتطرف والمرشح الرئاسي السابق، إيريك زمّور، الذي وصف التظاهرات المدافعة عن الحق الفلسطيني في غزّة بأنها أيضاً "حرب حضارات"، لكن داخل الأراضي الفرنسيّة، مضيفاً أن زيارته لتل أبيب هي لإظهار دعمه في حق "إسرائيل في الدفاع عن نفسها" ضد "البربرية الإسلاميّة"، ليتابع الحديث عن حق أوروبا بالدفاع عن "حضارتها".

المواقف الفرنسية اليمينية هدفها داخلي أكثر من كونه خارجياً. هي بالنهاية تنتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى حد أن أونفري يعلّق على لغة الجسد، وكأنه مختص بـ"كل شيء". أما زمّور، فيقول إن ماكرون ذو خطاب مهترئ، سواء في أفريقيا ولبنان، وكأنه شوه وجه فرنسا لأنه اقترح "ممرات إنسانيّة".

لا فائدة من الخوض في حجج اليمين واليمين المتطرف وتفنيدها. نحن أمام عماء أيديولوجي. لكن اللافت هو استعادة سردية صراع الحضارات، تلك التي تقسم العالم بين "الغرب" و"الشرق". مقاربة جوهرانيّة قائمة على الشيطنة المتبادلة، وكأن الحضارة مكون جوهري حكر على فئة ما دون الأخرى، ما يتضح أيضاً باستخدام كلمة "برابرة". ناهيك بتعميق الإسلاموفوبيا في فرنسا، حيث التركيز على ثياب النساء (برقع، بوركيني، عباءة... إلخ)، حد الوصول إلى مفهوم صراع الحضارات الذي لا يمكن وصفه إلا بسذاجات ما بعد الاستعمار، ومقاربة أميركيّة ظهرت منتصف التسعينيات في كتب سامويل هانينغتون، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، للتأكيد أن "الغرب" و"الشرق" كيانان منفصلان جوهرانياً، وأن الاختلاف الديني هو سبب كل الحرب.

يحاول اليمين هنا الاستفادة من مفهوم "الضحية اليهوديّة" الذي لم تقصّر أوروبا في استثماره، من أجل تبرير العنف الشديد الذي تشهده غزّة. وهذا ما نلاحظه في تكرار كلمة "هولوكوست" في الإشارة إلى ما حدث في السابع من أكتوبر. ولكنْ، هناك أيضاً تعامٍ؛ فاليمين المتطرف الفرنسي معادٍ للساميّة بامتياز، فهل هذا بسبب حركة حماس؟ وهل يعتبر اليمين المتطرف خارج "الحضارة الغربيّة"؟ لن نخوض أكثر لأن الحجج لامتناهية.

هناك ما هو لافت في تصريحات ماكرون الأولى حول "تحالف دولي للقضاء على حماس". هذا مشابه لأمر تاريخي سابق، حين مولت فرنسا جيوشاً لغزة الشرق وتحرير بيت المقدس من المسلمين. ونقصد هنا بدقة، الحروب الصليبيّة، ولا نعلم إن كان ماكرون قد أدرك هذه الإشارة وتراجع عن فكرة التحالف. لكن وراء كل البلاغة والكلمات الواضحة وغير الواضحة، معالم استعمارية، بعضها يعود لمئات السنين. معالم من أساطير وحكايات ووقائع تاريخيّة، كشف العدوان على غزة أنها ما زالت حاضرة في الوعي الأوروبي الذي يرفض التشكيك في "حق الدفاع عن النفس" الذي تمارسه إسرائيل، حتى لو عنى ذلك ارتكاب مجازر أمام أعين العالم.

المساهمون