شهدت صناعات الترفيه في الآونة الأخيرة تغييرًا جذريًا في صورة المرأة النمطية التي احتفظت بها لسنوات عديدة من قبل. إذْ تُحارب اليوم إساءة تمثيل المرأة أو زجها بصورة أحادية ومسطحة وتحويلها إلى "متعة للعين" مهامها وأهدافها محدودة للغاية.
مع تغير تلك الديناميكيات القديمة، يشجع صناع الأعمال الفنية أكثر وأكثر على التركيز على البطولات النسائية، خاصة عبر عوالم الأبطال الخارقين، إذ يزداد تصوير النساء الخارقات في السينما (الأفلام والبرامج التلفزيونية والأنيمي) بالإضافة إلى الوسائط المطبوعة (الروايات المصورة والكوميكس والمانغا) بشكل مطرد، وتغدو صورة المرأة الخارقة جزءًا هامًا من ثقافتنا المعاصرة، ووسيلة لتمكين المرأة ومناصرتها.
عانت المرأة سابقًا من التهميش الواضح في عالم الأبطال الخارقين، وذلك لشيوع مفاهيم قديمة وبالية، تنسب صفات الشجاعة والقوة إلى الذكر البيولوجي فقط، وتعتبر مفهوم "البطولة" حكرًا على الرجال. صورة سرعان ما تناثرت مع بداية الحرب العالمية الثانية، حين استدعت الحاجة أدوارًا أشد تعقيدًا من المرأة الأميركية وأجبرتها على تقديم مساهمات متنوعة للمجتمع المتأثر بالحرب. التقطت الأعمال الفنية عندها، وخاصة الكتب المصورة، تلك الظاهرة على الفور، وسرعان ما ظهرت شخصية "المرأة الخارقة" Wonder Woman، المستوحاة من تلك النقلة النوعية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، عاكسة الدور الناشئ للمرأة خلال زمن الحرب، أو ما يسمى بالعصر الذهبي للأبطال الخارقين الذي استمر حتى أواخر الأربعينيات.
بعد الحرب، تراجعت تلك المسيرة المشتعلة للبطلات الخارقات لتعود إلى نشاطها في منتصف الخمسينيات، محققة ذروتها مع نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، وذلك حين سيطرت "مارفل" على صناعة وإنتاج الأبطال الخارقين.
كثيرة هي نماذج النساء الخارقات عبر الأفلام الهوليوودية، خاصة مع شركتي "دي سي" أو "مارفل"، وهما عملاقا صناعة الأبطال الخارقين اليوم، إلا أن مارس/آذار عام 2019، وتحديدًا في اليوم العالمي للمرأة، كشف عن أول بطلة خارقة تلعب بطولة منفردة في عالم مارفل السينمائي مع فيلم "كابتن مارفل"، توقيت رأى كثيرون أنه متأخر، خاصة إذا ما قورن بتاريخ النضال الطويل للمرأة والممتد منذ الستينيات تقريبًا. بعيدًا عن "كابتن مارفل"، تغص إنتاجات السنوات الأخيرة بأعداد كبيرة من شخصيات النساء الخارقات، مثل "الأرملة السوداء" Black Widow و"العاصفة" Storm و"المرأة غير المرئية" Invisible Woman وغيرها من الشخصيات النسائية التي نجحت في تحطيم القوالب النمطية وأعادت تعريف البطولة والقوة، خلافًا لما روجت له شخصيات البطلات الخارقات في مرحلة سابقة، مثل "كات وومان" Catwoman و"إيليكترا" Elektra.
لكن رواج تلك الظاهرة السوسيوفنية، وتعدد الشخصيات النسائية الخارقة ودوافعها وأهدافها على نحو كبير، دفع عددًا من الباحثين، خاصة أولئك المهتمين بدراسات الجندر والمساواة، إلى طرح أسئلة هامة عما إذا كانت تلك الأفلام نسوية بالفعل أم أنها تسهم في الترويج لمشكلة لم تحل بعد.
يشير بحث أجرته هيلاري بينيل وإليزابيث بيم-مورافيتز في جامعة ميسوري إلى أن تأثير البطلات الخارقات، على الأقل بالنسبة للنساء، ليس دائمًا إيجابيًا. على الرغم من أن النساء يلعبن مجموعة متنوعة من الأدوار في هذا النوع الفني، فإن معظم الشخصيات النسائية تميل إلى أن تكون مفرطة في الجنسية، وتكاد تكون مثالية، فضلًا عن ملابسها المثيرة والحسية والمصممة وفق اعتبارات جنسية صريحة. أظهر البحث نفسه أن التعرض لهذه الصورة الخيالية من الممكن أن يؤثر على احترام الجسد وتقبل الذات، فمع أن رؤية البطلات الخارقات القويات قد تشجع المساواة بين الجنسين، بوصفها تحديًا للمجتمع البطريركي الذي احتكر معظم السرديات التي تقبع خلف البطولة الخارقة، إلا أن طبيعتها الجنسية قد يكون لها في الوقت نفسه تأثيرات مدمرة على صورة الجسد وتشكيل الذات، مما يتسبب في تعزيز المعتقدات النمطية حول الأدوار الجنسية بدلاً من تحديها.
تضاف تلك النتائج إلى وابل من الدراسات السابقة التي خلص معظمها إلى أن المعلومات المتعلقة بالنوع الاجتماعي والمنقولة عبر وسائل الإعلام الشعبية بوسعها أن تؤثر على التصورات الشخصية والمعايير الثقافية للنوع الاجتماعي، خاصة تلك التي فيها الكثير من الخيال، إذ ينظر لأفلام الأبطال الخارقين على أنها هروب مؤقت من الواقع، أو تهيؤات رومانسية تخبرنا أنه بوسعنا إنقاذ العالم بالكعب المسنن، أو ما يعادله من هيئة عضلية بالنسبة للرجل الخارق، فتصنع صورة مزيفة عن البطل/ة بمفهومه/ا المعاصر؛ صورة تؤكد على ضرورة امتلاك كل شيء، من العقل والجمال إلى الكفاءة البدنية وحتى المادية أحيانًا، بغية التحول إلى الإنسان المتفوق على البقية والقادر على إنقاذ البشرية من حوله من دون أدنى مجهود منه في بعض الأحيان.
لا تسهم تلك النظرة في تسليع جسد الإنسان، والمرأة بشكل خاص، فحسب، بل إنها تقدم نفسها زيفًا بوصفها ظاهرة "نسوية"، تروج لحقوق المرأة ولقيم المساواة والعدالة بين الجنسين، في حين أنها تستخدم جسد الأنثى هدفًا واضحًا لتحديقة الرجل المستقيم (male gaze)، وموضوعًا لشهواته الجنسية وتخيلاته الإيروتيكية عن المرأة، إذ تُصور غالب نساء "مارفل" بأجساد طويلة وممشوقة وأرداف ممتلئة وأثداء ضخمة، ولا يخلو خطابها اللفظي من بعض الإيحاءات الجنسية، وغالبًا ما يكون شعر المرأة الخارقة مفرودًا ووجهها مغطى بمساحيق التجميل حتى في أشد المعارك ضراوة.
وتمامًا كما القوالب الشكلية المنحوتة بحسب المعايير الجمالية الشائعة، هناك أيضًا قوالب نفسية معدة مسبقًا، ومنها قالب "المرأة الجريحة" المنتشر بشكل واسع عبر أفلام الخيال، وذلك حين تنقلب حياة البطلة الشخصية من الخير إلى الشر، أو من الضعف إلى القوة الصارخة بفعل أذية عاطفية تسبب بها رجل في ماضي البطلة قبل تحولها الجذري، وهو في الغالب والدها غير الداعم أو عشيقها السابق المسيء أو غيرهما من الذكور في حياتها العادية الخالية من أي بطولة تُذكر.
تفترض تلك الموضوعة ضعف الدوافع الأصيلة عند المرأة، وتعزز ظهورها بشكل تبعي، كما أنها تفترض أن الكفاح النسوي لا يتحقق إلا في عوالم متخيلة لا يمكن إدراكها. ففي حين تواجه البطلة أعداءها الطبيعيين في زيها الرسمي، إلا أنها تبدو أكثر هشاشة أمامهم في بيئات حميمية أو مهنية. في السياق نفسه، يُخلق للمرأة الخارقة أعداء من النساء اللاتي يكن في الغالب أمهات أو صديقات مذعورات يرغبن في حماية البطلة من قواها الخاصة، إذ تتعرض ديانا في "المرأة الخارقة" (2017) إلى الردع المستمر من قبل والدتها الساعية لحماية ابنتها من مصيرها، وتموت "الأرملة السوداء" (2021) حتى يتمكن الرجل من البقاء على قيد الحياة وإكمال المغامرة.
تبدو صور البطلات الخارقات شطحات من الخيال، لكنها مع ذلك قادرة على التأثير على واقعنا بشكل كبير، كما أنه ليس من المبالغة وصفها بالمرآة التي تعكس قيم المجتمع المحيط بها في مرحلة زمنية معينة. "المرأة الوطواط" على سبيل المثال، كانت نتاج عصر لم يشجع النساء على متابعة حياتهن المهنية الخاصة، كما يصف مايك مدريد في كتابه عن الفتيات الخارقات لعام 2009، فيزعم الكاتب أن الشخصية استخدمت كبيدق في مخططات "باتمان"، لكنها لم تُعتبر أبدًا عضوًا فعالًا في فريق "باتمان" و"روبن"، بل تم إيجادها لدرء الإدعاءات حول مثلية البطل.
يواجه صناع البطلات الخارقات تحديًا يتعلق بكتابة تلك الشخصيات وبنائها عبر السيناريو الورقي أيضًا، فليس من النادر اليوم استعارة الأدوار الجاهزة والمفصلة مسبقًا للرجال ثم إلباسها للنساء كزي متوارث. الأمثلة على تلك الصيحة كثيرة، ومنها مسلسل She-Hulk المقرر عرضه الشهر المقبل، وفيه هالك شخصية نسائية تؤدي دورها ممثلة، أو كإسناد دور جيمس بوند القادم إلى إمرأة وفقًا للإعلان الرسمي للفيلم.
ليست ظاهرة اقتباس الأدوار أو إسنادها إلى الجنس المغاير بالغريبة، بل من الممكن أن تكون آثار تلك الظاهرة الإيجابية أشد بكثير من سلبياتها، خاصة في ما يتعلق بنقل التجربة المعاشة من قبل جنس معين إلى الآخر. إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في الإبقاء على جوهر الشخصية كما هو، من دون مراعاة عبورها الجنسي أو خصائصها النفسية التي تشكل ماهيتها. يتساءل البعض، ربما، كيف يمكن إسناد شخصية جيمس بوند التي اتهمت مرارًا بالتحيز الجنسي وبكره النساء، إلى امرأة؟ وهل تصح مقاربة كهذه بالنظر إلى طبيعة جيمس بوند الخاصة والإشكالية؟
لن تضحي هوليوود بجماهيرها بالطبع، إذ تستمر أفلام الأبطال الخارقين بالتطور يومًا بعد يوم، حتى أنها تكاد لا تجد لها منافسًا على شباك التذاكر. لذا ترى نفسها، كحال معظم الأعمال الفنية، أمام أسئلة هامة حول كيفية سد تلك الثغرات التي قد تواجهها في المستقبل القريب، ومنها شمولها لكل شرائح المجتمع وقدرتها على تمثيل فئاته المهمشة والمستبعدة.