"النار بالنار"... اللجوء السوري بعينٍ مختلفة

17 ابريل 2023
كاريس بشار وجورج خباز في المسلسل (تويتر)
+ الخط -

تُنتِج الدراما العربية خلال رمضان عدداً كبيراً من الأعمال التلفزيونية. هذه الكثرة هي أحد أسباب تكرار الموضوعات المطروحة بين عدة أعمال. فأينما وليت وجهك، فستجد موضوعة الحب والعلاقات العاطفية. كما ستشاهد كماً مفرطاً من القوة والبطش. وستلاحظ وجود مقاربات اجتماعية وسياسية لواقع المجتمعات العربية والأنظمة التي تحكمها.

أمام هذه الحال، ربما تَصلُح الملاحظة النقدية الآتية: "ليس المهم ما يقال ولكن المهم كيف يقال"، كفاتحة سؤال لبعض الأعمال التي شهدت متابعة جماهيرية خلال موسم 2023، وعالجت قضايا شائكة سياسياً واجتماعياً، مثل العلاقة بين السوري واللبناني، كما قدّمها مسلسل "النار بالنار" للكاتب رامي كوسا، والمخرج محمد عبد العزيز. العمل من بطولة مشتركة، يلعبها عابد فهد وكاريس بشار وهدى شعراوي وجمال العلي وآخرون من سورية. ومن لبنان، يحضر جورج خباز وطارق تميم وزينة مكي وساشا دحدوح وطوني عيسى، بمشاركة للفنان أحمد قعبور بدور والد عزيز، المفقود في الحرب الأهلية.

أخذ صنّاع العمل بعين الاعتبار مدى حساسية وتعقّد العلاقة بين السوريين واللبنانيين، وأن لهذه العلاقة ذاكرة سيئة السمعة، مُثقلة بالحروب والدماء والاعتقالات. ذاكرة وَرِثها جيلٌ لبناني كامل، ممن تَفتح وعيه على مظاهرات تطالب بإنهاء الوجود السوري في لبنان عام 2005، ثم شبّ على وجود سوري جديد تعيّنَ لجوءاً هذه المرة بدءاً من عام 2011.

تناول العمل هذه العلاقة التي تجمع بين جيل الأبناء اللبناني واللاجئين السوريين من ثلاثة أبعاد: البعد الإنساني، والبعد السياسي والأمني، والبعد الاجتماعي. هذا التشكيل الثلاثي جرى التعبير عنه عبر تصوير المَعيش اليومي بين الطرفين في منطقة الدورة، ضمن بيئة اجتماعية مهترئة، مُعتمة معظم النهار بسبب انقطاع الكهرباء، ويموت فيها الناس على أبواب المستشفيات بسبب عدم تحملهم تكاليف العلاج. نجد أنفسنا أمام بيئة أفسدتها السياسات المالية الفاشلة، وأنهكها حكم الطوائف. في هذه البيئة، وداخل هذا الحي، عبّرت الشخصيات عن كل الأفكار والمقولات والتنميطات التي برزت بعد اللجوء، وأزّمت العلاقة بين الطرفين. تُنسج داخل هذا الحي شبكة من العلاقات والمصالح التي نجد فيها اللبناني يواجه اللبناني، بل و"يقيم عليه الحد" نتيجة مشاكل لا علاقة للجوء بها. وفي أوقات أخرى، سيقف اللبناني مع السوري ضد السوري، وفي أكثر من مشهد سيقف اللبناني مع السوري ضد اللبناني. فعلى سبيل المثال، تجد محاولات تعميم الصيغة العنصرية للتعامل مع السوري في هذا الحي، مثل لافتات منع التجول، وترديد عبارات "غيّروا هوية المكان" و"غزوا المكان"، كما قالها عزيز (جورج خباز)، يقابلها أصوات أخرى رافضة لمثل هذه التعميمات، ولا تقبل تحميل السوري أي مسؤولية لما آلت إليه حال الحي ولبنان، فـ"عندن المنيح والعاطل، وعنا المنيح والعاطل"، بحسب وجهة نظر جميل (طارق تميم)، ذاك المثقف "الأفلاطوني"، المدمن على لعب القمار، والمتفائل إلى حد أنه باع ثيابه ثم ابنه الذي لم يولد بعد ثم روحه، وحاول أخيراً حرق نفسه لعلّه يشعل ناراً تخترق صمت الناس لتشعر بجحيم الحال، وتنتفض على من سرق وجوع وعطش أهالي لبنان.

داخل هذا الحي، يتسلّط عمران (عابد فهد) على السكان، فهو المرابي وصاحب المال ودائنه للناس. يحمل عمران الجنسيتين، اللبنانية والسورية، ويتحكم بمجمل عقارات ومياه وكهرباء الحي. أحياناً، يلعب دور حامي حمى السوريين، وفق ما تستوجب مصلحته، وإلا فلا فرق بين السوري واللبناني، فهو من وفّى زوج مريم السورية في النفوس لكي يتزوجها، وعندما رفضت بدأ يصبّ جام غضبه عليها. هذه السطوة التي يمتلكها عمران، وأعماله، مثل الاستثمار والتهريب والتحكم بمفاصل الخدمات، لا تبررها كثيراً جنسيته اللبنانية، ولا يفسرها حجم أمواله، إنما تبدو كأنها تلميح إلى استمرار قوة القرار السوري داخل لبنان الذي اتخذ هذا الشكل من مواصلة وجوده ما بعد العسكري. كان على مريم التي جسدت شخصيتها كاريس بشار أن تحتمل تبعات غضب عمران، إلى جانب تبعات بقائها وهي تجهل مصيرها في لبنان.

حكاية مريم تمثل حكاية آلاف السوريين الذين لجؤوا إلى لبنان لبضعة أيام بهدف الحصول على فيزا إلى أوروبا. بيد أن تعسّر الظروف أوقف رحلتهم، فإما ابتلعهم البحر، أو اعتقلهم الأمن، أو تعرضوا إلى الاحتيال. ومع ذلك، تلملم مريم خيبتها، وتستنهض نفسها من جديد، وتحاول أن تمضي كما في كل مرة تصادفها خيبة ما، مثل عنصرية بعض أبناء الحي، وإذلال عمران لها، والخضات الأمنية والتشبيحية، ولحظات الحب المستحيل التي عاشتها مع عزيز، وروحانيتها التي أرقتها، وغير ذلك من المواقف التي تعرضت لها وعثّرت خطواتها في أغلب الطرق التي سلكتها.

صحيح أن اللاجئ السوري قاربَ على وجوده العشر سنوات أو أكثر في لبنان، وأن معاناته شهدها العالم كله، ووثقتها التقارير والجمعيات الحقوقية، لكن أهمية "النار بالنار" تبقى في أنه يكاد يكون العمل الدرامي الوحيد الذي قارب مشكلة اللجوء بسياقاتها المختلفة، وبيّن دقائق الحياة اليومية الصعبة التي يمر بها اللاجئ ويضطر للتعامل معها، ناسياً مرة ومسامحاً مرات أخرى. والأمر الأهم أن العمل لاقى تفاعلاً ومتابعة كبيرة بين الناس، فلعله يخفف وطأة الاحتقان تجاه االلاجئ السوري، المتولدة عن خطابات وشعارات السياسيين عن إرث قديم لا حول فيه للجيل الجديد من السوريين ولا قوة. فمثلما أن العنف وتمثلاته قد تصدر عن السوري واللبناني وأي إنسان آخر، كذلك الخير وتمظهراته لا يعرف جنسية معينة.

المساهمون