الموسيقى التصويرية... عزفٌ على مشاعر الجمهور

11 ديسمبر 2020
أحدث الموسيقي الأميركي ماكس شتاينر ثورة في الموسيقى التصويرية (Getty)
+ الخط -

صارت الموسيقى التصويرية مع مرور الوقت عنصراً رئيسياً في الأعمال التمثيلية، بل إن كثيراً من المقطوعات الموسيقية التي ألِّفت خصيصاً للسينما والدراما التلفزيونية هي الآن أكثر تداولاً من الأعمال الفنية ذاتها.

لا يُنسى كثير من الأعمال بفضل موسيقاها مثل: "دعاء الكروان" لأندريه رايدر، و"شمس الزناتي" لهاني شنودة، و"المهاجر" لمحمد نوح، و"أيام السادات" لياسر عبد الرحمن، و"إعدام ميت" لعمر خيرت، و"رأفت الهجان" لعمار الشريعي.

وعالمياً، تبقى في الذاكرة موسيقى "زوربا اليوناني" 1964 لليوناني ميكيس ثيودوراكيس، و"الأب الروحي" للإيطالي نينو روتا، و"الرسالة" للفرنسي موريس غار.

وفي الفترة الأخيرة صدرت مؤلفات عدة تعالج هذا الفرع الفني المهم، مثل كتاب "فن الموسيقى السينمائية" للدكتور إيهاب صبري من مصر، و"الموسيقى التصويرية: مدخل في جماليات وفلسفة الموسيقى التصويرية" للدكتور قيس عودة قاسم من العراق، "والسينما والموسيقى" لخالد الخضري من المغرب.

مرت الموسيقى التصويرية بعددٍ من المراحل، ويبدو أنها بدأت مع المسرح، أي قبل نشأة السينما والدراما التلفزيونية، ثم كانت هناك محاولات مبكرة لكسر الصمت في الأفلام غير الناطقة، وكان الحلُّ المبدئيُّ يتمثل بعازف بيانو يشاهد العرض إلى جانب الجمهور، ويقدم على الهواء مباشرة ألحاناً معدّة سلفاً كي تناسب أجواء القصة وأحداثها. وهي مرحلة سبقت تسجيل الموسيقى بصورة مستقلة، ثم إعادة تركيبها على الصورة المتحركة.

السينما الصامتة

كان تشارلي تشابلن من مؤسسي صناعة الموسيقى التصويرية من خلال أفلامه الصامتة والقصيرة، إذ كان يرى ارتباط الموسيقى بالصورة من الضروريات، فاستثمر إجادته لآلات البيانو والكمان والتشيللو، واستعان بملحنين ومخرجين موسيقيين.

شهرة الموسيقى التصويرية لتشارلي تشابلن أنتجت ثلاث أغانٍ شعبية ألِّفت كلماتها ووضعت على موسيقاه؛ مثل أغنية "ابتسم" التي حققت نجاحاً كبيراً في خمسينيات القرن الماضي، وهي مأخوذة من فيلم "الأزمنة الحديثة" 1936، وأغنية "حتى النهاية" المأخوذة من فيلم "أضواء المدينة" 1931، وهو الفيلم الذي حاز فيه شابلن جائزة "أوسكار" لأفضل موسيقى تصويرية سنة 1973 حين أعيد نشر الفيلم، و"هذه أغنيتي" المأخوذة من فيلم "كونتيسة من هونغ كونغ" 1967.

وفي أرشيف السينما العربية عدد قليل من الأفلام الصامتة، أقدمها فيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" 1923، للمخرج محمد بيومي، وتظهر فيه الموسيقى التصويرية عنصراً مؤثراً وموازياً للأحداث.

رواد الفن

في البدايات، كان الموسيقيون يكتفون بالاستفادة من الموسيقى الكلاسيكية المتداولة وإعادة تعديلها ودمجها في الأفلام، ولكن في منتصف العشرينيات كان المؤلف الموسيقي الفرنسي، كاميلي ساينشيز، أول من ألّف موسيقى خاصة بالأفلام، معتمداً على إحساسه بدرامية الأحداث ووضع الألحان المناسبة لسيناريو المشهد المعروض، فيما نجحت بعض المؤثرات الصوتية غير الموسيقية كالريح وأصوات الصفير في إحداث تأثير قوي لدى المشاهدين، كما في فيلم "الريح" 1925 للمخرج السويدي سيوستروم.

في أواخر العشرينيات من القرن الماضي صارت الأفلام ناطقة، وهنا تراجعت الموسيقى لتكون خلفية للحوار التمثيلي، بعد أن كانت منفردة بأذن الجمهور الذي يتوجه ببصره إلى الشاشة. وفي الثلاثينيات أحدث الموسيقي الأميركي، ماكس شتاينر، طفرة كبيرة في هذا المجال مع فيلمه "كينغ كونغ" 1933، وهو أول فيلم ناطق تصاحبه موسيقى تصويرية، فقدم ألحاناً تجذب مشاعر الجمهور إلى الأحداث، بعدها توالت أعماله العظيمة، ومن بينها فيلم "ذهب مع الريح" 1939، "وكازبلانكا" 1942.

واستفادت "والت ديزني" كثيراً من موسيقاه المرحة في أفلامها. وحصل شتاينر على عدة جوائز "أوسكار" سنوات 1935 و1942 و1944، كذلك كان أول من حصل على جائزة "غولدن غلوب" لأفضل موسيقى تصويرية.

الواقع العربي

أين كانت الموسيقى التصويرية في السينما العربية آنذاك؟! يمكن العثور على إجابة من خلال المحرر الفني في مجلة "الرسالة" المصرية سنة 1939 الذي يقول إن "الجزء الأكبر من نجاح الأفلام يعود إلى إتقان الناحية الموسيقية فيها، وهي ناحية لا نجد في مصر من المنتجين من يهتم بها، ولذا نشعر بالملال يسود نفوسنا في معظم الأفلام المصرية التي يعتمد فيها المنتج والمخرج وكاتب السيناريو وواضع الحوار والمؤلف أخيراً، على الحوار".

ويضيف "الواقع أن الموسيقى التصويرية في مصر تكاد تكون مهملة، لأن ملحنينا يتجهون إلى مناحي أخرى توافروا عليها. ولذا رأت السيدة بهيجة هانم حافظ، بصفتها رئيسة نقابة الموسيقيين المحترفين، أن تسدّ هذا النقص الموجود بأن تضع عدة قطع موسيقية تصلح لشتى المواقف السينمائية، وأن تسجلها وتطبع منها نسخاً عديدة تعرض للبيع لمن يطلبها من أصحاب الشركات التي ترى نفسها في حاجة إلى سدّ هذه الناحية الواجب أن تملأ بما هي جديرة به من الاهتمام والإتقان الفني".

نظرة المخرجين

وفي الاستعانة بالموسيقى الجاهزة إشكالية يواجهها العمل الفني، وعلى حد تعبير المخرج صلاح أبو سيف (1915-1996) فإن الموسيقى التصويرية ليست لها حياة مستقلة، ولا بد من تأليفها لخدمة القصة، والجمهور نفسه الذي يطرب لسماع ألحان بيتهوفن وموتزارت الكلاسيكية في حفلات موسيقية، قد ينزعج منها إذا استعملت هذه الألحان كموسيقى تصويرية. فقيمة الموسيقى تتحدد تبعاً لخدماتها الوظيفية، وليس تبعاً لصفاتها كمقطوعة مستقلة.

 كان أبو سيف وجيله من المخرجين الكبار يتابعون حركة السينما العالمية ويرصدون تفاصيلها وأسباب تألقها، فهو نفسه يحدثنا عن أثر الموسيقى في بعض تلك الأعمال، ويضرب المثل بفيلم "دكتور جيكل ومستر هايد" 1941.

فقد واجهت المخرج فيكتور فليمنغ مشكلة في أثناء تصوير مشهد سير البطل في حديقة هايد بارك، حيث تتصارع الشخصيتان هايد وجيكل في داخله. هنا دعا المخرج مؤلف الموسيقى فرانز واكسمان، ووجدا معاً الحل الآتي: وضعا لَحنَين، أحدهما فالس من فيينا سمعه دكتور جيكل في حفل أقامته خطيبته، والثاني نغمة موسيقية اعتادت المرأة الغانية أن تترنم بها. فإذا باللَّحنَين يتصارعان معاً، وكل يحاول التغلب على الآخر، وبذلك أمكن الموسيقى التصويرية أن تترجم الصراع.

وفي فيلم "تعارف قديم" 1943 للمخرج فنسنت شيرمان تتدخل موسيقى فرانز واكسمان في مضمون القصة، فالرجل الذي تحبه بيتي ديفيس يخبرها أنه سيتزوج فتاة صغيرة. تقترب الكاميرا منها إلى درجة كافية لتظهر انفعالاتها. وفي الوقت نفسه تعلو الموسيقى ويصبح حوار الرجل الذي لم يعد مهماً الآن، في الخلفية، ويكون له ذات التأثير الانفعالي الذي للقطة المكبرة.

ويشير أبو سيف إلى أن الموسيقى التصويرية لها وظيفة أخرى تتمثل بربط مجموعة من اللقطات أو مجموعة من المشاهد، فالانتقال من لقطة إلى أخرى يسبب نوعاً من التوقف، في حين أن الموسيقى لا تتوقف وتنقل المشهد وتسلمه للآخر.

كثرة الاقتباس

وبالرغم من هذا الوعي بقيمة التأليف الموسيقي السينمائي، ومع كثرة الملحنين القادرين على القيام بالمهمة، امتلأت السينما المصرية بموسيقى تصويرية مقتبسة من مقطوعات عالمية مشهورة أو مأخوذة من أعمال أجنبية أصلية.

بل إن بعض المقطوعات المشهورة كتب لها أن تكون ضيفاً مكرراً على العديد من الأفلام المصرية، مثل الموسيقى الراقصة للروسي ألكسندر غلازونوف بعنوان Danse Orientale 1894 التي نسمعها في أفلام "ألف ليلة وليلة" 1940، و"نور الدين والبحارة الثلاثة" 1942 من إخراج توجو مزراحي، و"بحبح في بغداد" 1942 لحسين فوزي، و"فجر" لعاطف سالم 1955، والموسيقى التصويرية للفيلم البريطاني Meet Mr Callaghan من تأليف إريك سبير، التي نسمعها في فيلمي "نشالة هانم" 1954 لحسنالصيفي، و"الستات ميعرفوش يكدبوا" 1954 لمحمد عبد الجواد... وهكذا.

المساهمون