في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، احتفل العالم بمرور قرن على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في مصر. وقتها أعيد فتح نقاش أساسي عن علم المصريات والتنقيب عن الآثار في مصر: لماذا احتكر علماء الآثار الأجانب الصورة طيلة عقود طويلة؟ لماذا كان للعالم الأوروبي أو الأميركي الأبيض سلطة التنقيب والاكتشاف والإعلان عن الكنوز التاريخية التي امتدت على طول الأرض المصرية؟ أين دور العلماء والمنقبين المصريين؟ وهل بدأ المحليون فعلاً بالإمساك بزمام هذا العلم في السنوات الأخيرة؟
هذه الأسئلة تجاوزت حدود مصر، إلى جارها السودان، وهو ما سلّطت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية الضوء عليه في تقرير نشرته أخيراً عن علماء الآثار السودانيين الشباب وعملهم في التنقيب والحفاظ على آثار بلادهم الغنية والمتنوعة.
مفاهيم تتغيّر
رافقت الصحيفة مجموعة من طلاب وطالبات علم الآثار في جامعة الخرطوم أثناء عملهم داخل أحد المباني الذي يضمّ صناديق من الآثار وتماثيل طبق الأصل لتماثيل تاريخية وبارزة من تاريخ السودان. "من المهم جداً أن نقوم كأفارقة بأعمال التنقيب الخاصة بقارتنا... لأنه عندئذ ستكون لدينا ثقافتنا الأثرية الخاصة بنا، هناك الكثير مما نفهمه لأننا أبناء هذه الأرض" تقول الطالبة صابرين الصادق لـ"ذا غارديان"، مضيفة "الفكرة القديمة أن العلماء الغربيين يملكون معرفة أكبر من التي نملكها، آخذة في التغير".
توافق الطالبة صابرين جمال (22 عاماً) على ما تقوله زميلتها. الشابة الآتية من ولاية جنوب كردفان التي مزقتها الحرب، تشير إلى أن "الصورة النمطية التي تروّج لها الأفلام والأدب في الغرب عفا عليها الزمن... هناك فكرة مسبقة وجاهزة عن الصورة يجب أن يبدو عليها عالم الآثار. لكن هذه الفكرة مضللة، إذ لا شكل ولا لون ولا جندر محدد للعاملين في مجال الآثار".
الأرقام والوقائع الجديدة في السودان تؤكد ما سبق. وتوضح مديرة متحف السودان الوطني غالية جار النبي إلى أن عدد النساء في قسم علم الآثار كان 3 طالبات عندما كانت هي في الجامعة "أما اليوم فالعدد حوالي 20 شابة... هذا تغيير كبير جداً ومهم، هناك المزيد من الشابات في السودان المهتمات بمعرفة تاريخهن. قبل اثني عشر عاماً كان لدينا بعثات أجنبية فقط تعمل هنا، لكن هذا آخذ في التغير. الآن لدينا العديد من البعثات السودانية التي تقوم بالتنقيب في مواقعنا المحلية".
تحديات بالجملة
لكن هذا التغيير التدريجي لا يخلو من المشكلات، خصوصاً بالنسبة لعلماء الآثار الشباب. فالموجة الجديدة من هؤلاء في السودان وأماكن أخرى في القارة الأفريقية تواجه العديد من العقبات، النساء على وجه الخصوص، إذ إن اختيارهن لهذه المهنة يجلب معارضة كبيرة، سواء من العائلة أو من المحيط الاجتماعي.
"لثلاث سنوات عارضت عائلتي دراستي لهذا الاختصاص. كانت تلاحقني أسئلة من نوع: ماذا ستفعلين بهذه الشهادة؟ ليس من المفترض أن تكوني عالمة آثار لأنك امرأة! كيف ستسافرين بمفردك؟" تقول صابرين جمال لـ"ذا غارديان".
إلى جانب الفهم الضبابي لعلم الآثار لدى قسم كبير من المجتمع مشكلة أخرى، أكثر صعوبة ربما، تبرز. فهناك نقص حاد في الموارد المالية، إذ تسببت جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الحالية في العالم في شل الحكومات في جميع أنحاء القارة، بما فيها السودان. ففي الخرطوم، تُعقد الدروس لطلاب علم الآثار في مبنى عمره 50 عاماً يتعرض لانقطاع مستمر للتيار الكهربائي في درجة حرارة تزيد عن 40 درجة مئوية. حتى في البلدان الأكثر غنى نسبياً، مثل جنوب أفريقيا، غالباً ما يكون التمويل والتسهيلات غير كافية.
البعثات الأجنبية
عقود الاستعمار الطويلة، ثمّ الحروب الداخلية، ومعها الأزمات السياسية والأمنية والمالية الطاحنة، جعلت البعثات الأجنبية تعمل شبه وحيدة في البلاد خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، قبل بروز جيل جداد من العلماء المحليين. في هذا الإطار تقول مديرة قسم الحفظ في الهيئة الوطنية للآثار والمتاحف في السودان إجلال الملك إنها فعلياً تشعر بالامتنان لعلماء الآثار الأجانب الذين "لم يتوقفوا عن القدوم إلى السودان حتى في أحلك الظروف. وقد قدموا مساعدة كبيرة جداً بالنسبة لنا، وساعدوا في الحفاظ على عملنا واستدامته، وفي بناء قدرات عملية لعلماء الآثار الشباب. كنا بحاجة إلى محترفين، الآن أصبح لدينا الكثير"، وفق تصرحها لـ"ذا غارديان".
لكن الامتنان للعلماء الأجانب والدور الكبير الذي لعبوه في التنقيب عن آثار السودان لا يمنع بروز انتقادات كثيرة لمتاحف وحكومات غربية، ساهمت أو غطّت أو استفادت من نهب القطع الأثرية السودانية خلال فترة الاستعمار أو الحروب الداخلية. وسبق لإجلال الملك أن أطلقت أخيراً حملة لاستعادة الآثار المهربة والمسروقة، وترى أن ذلك جزء من خطة أوسع وأكبر لاستعادة البلاد لكنوزها "وتطوير إمكانات هؤلاء الشباب والشابات السودانيين/ات، يأتي في هذا الإطار. لقد حان الوقت لكتابة التاريخ من وجهة نظر السودانيين".
السياق السياسي
قد يبدو صعود جيل جديد من علماء الآثار منفصلاً عن التطورات السياسية في البلاد. لكن ما تقوله الشابة صابرين صادق يؤكد عكس ذلك "لكي نكون دولة مستقلة وحرة، نحتاج إلى علماء آثار خاصين بنا". كلامها يأتي في وقت تعيش البلاد الحكم الحالي بقيادة عبد الفتاح البرهان، مقابل أصوات الشباب في الشارع التي تتابع التظاهر بهدف الوصول إلى دولة يرونها تشبههم.